رسالة
الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعرّي من منظور سردي
د.محمد
عبيدالله
تعريف
وتاريخ:
يحمل
هذا الكتاب عنوان "رسالة الصاهل والشاحج" لأبي العلاء المعري
(363-449هـ) وقد حقّقت الرسالة المرحومة عائشة عبد الرحمن في منتصف السبعينات من
القرن الماضي، عن نسختين محفوظتين في الخزانة الملكية بالرباط، وأوضحت في مقدّمتها
ما يضيفه الكشف عن هذا النص المهم من حسم أمور تتصل بمؤلفات أبي العلاء وآثاره،
وموقع هذه الرسالة بين تلك المصنفات، وتاريخ تأليفها وملابساته وطبيعته، وهي أمور
تاريخية مهمّة يمكن الإفادة منها بمراجعة المقدمة الدراسية التي مهّدت بها بنت
الشاطئ لهذه الرسالة.
ويعنينا
من كل ذلك أن أبا العلاء أمْلى هذا النص بصورة رسالة مطوّلة وجّهها إلى شخصية
تاريخية من شخصيات عصره هو: "عزيز الدولة فاتك مولى منجوتكين، والي حلب
للفاطميين في أيام الحاكم بأمر الله وبعض أيام ابنه الظاهر" وولايته كانت
بين عامي (407هـ وحتى مقتله بتدبير من أسياده عام 413هـ) وتفيدنا تدقيقات بنت
الشاطئ وفق الإشارات التاريخية في الرسالة نفسها أنها أمليت بعد ولاية
"الظاهر لإعزاز دين الله" بين أواخر عام 411 وعام 412 هـ. ويعكس النص
أجواء الخوف من غزو الروم وطبيعة معيشة الناس في معرّة النعمان وحلب وما حولهما في
عهد سيطرة "الغلمان المغامرين" من مثل فاتك هذا الذي تولّى إمارة حلب
لأسياده الفاطميين، وهو فتى من أصل رومي، مولى لتركي، (مولى من الدرجة الثانية ثم
حملته التقلبات ليغدو أميرا يحمل ألقابا متعددة) وشاءت الأقدار أن تكون إمارته في
حلب في ثغر من ثغور المسلمين من المفروض أن يواجه الروم الذين يتربّصون بحلب
وأنطاكية والموصل ومنبج منذ حقبة الحمدانيين التي انتهت نهاية مريعة ولم يحمها شعر
أبي الطيب قبل مرحلتنا هذه بقرابة نصف قرن. وقد انتهى مصير عزيز الدولة فاتك
"بتدبير ست الملك بنت العزيز لدين الله الفاطمي في قلعة حلب سنة 413 هـ على
يد أحد غلمانه أيضا، ثم لم تمض على مصرعه سنتان حتى خرجت حلب نهائيا من حكم
الفاطميين إلى (أسد الدولة صالح بن مرداس الكلابي) الذي بدأت به في سنة 415 دولة
بني مرداس في حلب". (مقدمة بنت الشاطئ، ص30). وأسد الدولة هذا يمر ذكره في
الرسالة، بما يعكس علاقته بعزيز الدولة وإجباره على نقل أمه للسكنى في حلب كتدبير
سياسي يوحي باستقرار الأمور وعدم تفكيره في الثورة على عزيز الدولة ومن ورائه الفاطميين
الذين أرسلوه، ويتناول أبو العلاء مسألة سكنى الأم العجوز البدوية ببلاغة ساخرة
مخبوءة مكتومة (وبنو كلاب من البدو الذين سكنوا ظاهر حلب ومحيطها، وحلب مدينة
حضرية عامرة، فكيف للبدوية أن تألف حياة الحضر، ثم تكون مجبرة تحت ضغوط السياسة
والحرب أن تسكن المدينة؟؟)
وقد يوحي هذا الحديث بأن الرسالة أقرب
للتاريخ، ولكنها ليست كذلك، مع أن المعري يسمي الشخصيات بمسمياتها التاريخية،
ولكنها مع ما فيها من إشارات تاريخية نص نثري أدبي سردي أملي بوعي وتدبير من أبي
العلاء ليكون أثرا أدبيا قصديا ينطلق من زمنه وعصره ولكنه لا ينتهي إليه ولا يحد
بحدوده.
البناء والتجنيس:
-
مفهوم
الرسالة:
نعرف أن مؤلّفات عربية متعدّدة حملت اسم
"رسالة" وهي تسمية تحيل إلى ملمح تجنيسي، ولها تراث طويل في المصنفات
العربية، ولها أيضا تنويعات مختلفة، ولكن الجوهري فيها أنها تتصل بتوجيه كلام من
مرسل إلى مرسل إليه، أي تقتضي وجود أطراف "عملية الاتصال" ولكن الغاية
من هذه العملية عند المعري وعند الجاحظ (ت255هـ) لا تتوقف عند الإعلام أو الإفهام
أو الغاية النفعية، بل تتجاوز ذلك إلى الغاية الجمالية والفنية. وإذا كان الجاحظ
في رسالة التدوير والتربيع على سبيل المثال قد سخر سخرية صريحة من المرسل إليه،
فإن أبا العلاء قد فعل شيئا شبيها بذلك، ولكن بأسلوب مختلف لم يخل من المواربة ومن
اختراع أسالب جديدة للسخرية تفيد إلى حد من طريقة الجاحظ، ولكنها تبعد عن صراحتها
ومباشرتها، وعن البعد "الكاريكاتوري" فيها، لصالح طريقة أكثر خفاء وأشد
تعقيدا.
وتمثل
"الرسالة" في الصاهل والشاحج إطارا يحيط بالنص وينظمه وتظهر علاماته في
أول الرسالة على لسان أبي العلاء، وهو يكشف أو يتظاهر في الكشف عن سبب وضع رسالته،
قبل أن يفرّع إملاءه ويعقّده، ليبعد شيئا فشيئا عن الإطار الواقعي الأول، وينتقل
إلى العالم الداخلي للرسالة/القصة، وذلك عندما يغادر عالم الإنسان إلى عالم
الحيوان، فيجمع الشاحج (البغل) مع الصاهل (الحصان)، أما اللقاء فيدبر المعري أمره
باختصار عندما يجعل الصاهل قادما من مصر مارا بمعرة النعمان نحو حلب دار حضرة
الإمارة، ومعنى هذا أنه قادم من دار الخلافة الفاطمية ليبلغ أمرا أو رسالة إلى
أمير حلب للفاطميين، فيحاول الشاحج استغلال الفرصة بأن يأمل من الحصان (لعله من
خيل البريد!) أن يحمل رسالته هو أي رسالة الشاحج إلى دار الإمارة وحضرة الأمير،
فهنا نحن مع طبقة أخرى من طبقات المراسلة، تجعل من هذا المبدأ جوهرا بنائيا مهما،
وتلمّح إلى كثرة الشكوى وقلة الاستماع أيضا في عصر كثرت مشكلاته واضطراباته، حتى
وصلت الشكوى إلى الحيوانات بعد أن تجاوزت عالم البشر. ولكن أبا العلاء يحيل شكواه
وينقلها على لسان الحيوان متجاوزا الشأن الواقعي الذي عرض له أول رسالته، فيما يخص
أرض أبناء أخيه التي فُرضت عليها ضرائب باهظة ألجأته إلى محاولة مساعدتهم كما
ألفوا مساعدته وهو الضرير الضعيف الذي لا أبناء له سوى أبناء أخيه يعاونونه
ويتدبرون شؤونه. يتظاهر أبو العلاء بالضعف أو يدّعيه على نحو فني فريد، يسمح له
بالمواربة ويسمح له بالسخرية، فهذا الذي يدّعي الهامشية ويتظاهر بالضعف وقلة
الحيلة، يتكشّف عن قوة تعبيرية تتمثل في رسالته التي تسخر من الأمير وحاشيته وحكمه
كلّه، تقلب كل شيء وتنقد كل شيء، وتتمظهر في كل ذلك أو تتأطّر بأنها رسالة شكوى أو
طلب أو استئذان بترك أبناء أخيه وشأنهم في أرضهم.
يمكن
أن تسلك هذه الرسالة ضمن مسار السرد الذي وظف الشخصيات الحيوانية، ولكن تفاعل أبي
العلاء لا يقتصر على كليلة ودمنة، وإنما على تراث أقدم منها يتصل بظهور قصص
الحيوان في الشعر العربي، وفيها إشارات إلى أمية بن أبي الصلت وصخر الغي وغيرهما.
ويعيد في رسالته صياغة عدة قصص نمطية معروفة في الشعر الجاهلي؛ كقصة ثور الوحش،
وقصة حمر الوحش، ولكنه يوجه هذا القصص توجيها جديدا عندما يتوقّف مطولا عند قسوة
الإنسان ضد الحيوان، ولعل لذلك صلة بفلسفة المعري التي صاغت أمورا متعددة في حياته،
وله علاقة أيضا بنظرته المتألمة إلى قسوة الإنسان ضد أخيه الإنسان في ذلك العصر
وكل عصر. يضاف إلى ذلك أن أسلوبه وبناء رسالته يختلفان اختلافا بينا عن البناء
الرمزي وعن الغاية الوعظية التعليمية التي نعرفها في كليلة ودمنة. ولذلك نظلم أبا
العلاء إذا حملنا أسلوبه في الصاهل والشاحج على التأثر بكليلة ودمنة، بل هو أسلوب
مختلف مشتق من ثقافة أبي العلاء ومن غايته التي دفعته إلى إملاء رسالته.
وشخصيات
الرسالة خليط من الشخصيات الحيوانية، وهي الشخصيات الرئيسية، ولكن عالم الإنسان
يظل حاضرا، فهو العالم الذي يعالج المعري شؤونه وقضاياه، ولذلك تظهر شخصياته
التاريخية والفنية متداخلة مع الشخصيات التي تنتمي إلى عالم الحيوان. ويمكن إجمالا
أن نرى في هذه الشخصيات الحيوانية: الفرس (الصاهل)/البغل (الشاحج) والفاختة
والقطاة والبعير (أبو أيوب) والثعلب والضب وغيرها..وجوها تمثل أفكار أبي العلاء
نفسه، في سرد يتظاهر بالحوار والحوارية ولكنه في جوهره سرد أحادي الصوت إذ تفضي
الأصوات كلها وتتعاضد للتعبير عن صوت أبي العلاء نفسه.
ومن
أجل تأثيث الرسالة ونسجها نسجا سرديا عمد أبو العلاء إلى حيل كثيرة، منها تحويل صورة
تلك الحيوانات في الثقافة العربية إلى سلوكات وأفعال للشخصيات، فالمثل "أكذب
من فاختة" مثلا يدفعه لرسم صورة شخصية تستعذب الكذب، "والفاختة في هذا
كله واقفة تسمع مناجاة الصاهل وثناءه عليها، وأقوال الشاحج ونقصه منها، فترفّ
عينها للصاهل تغمز عليه وهو لا يراها لأنه معصوب العينين، وتنطلق إلى البعير
الوارد فتعكس ما قال الشاحج فيه وتجعل القول الذي نطق به الصاهل من وصفه بالجهل
محكيا عن الشاحج، تريد أذاته بذلك..." ص207. وقد استعمل أبو العلاء الأسماء
والكنى حيلة إضافية تركز صورة الحيوان بوصفه شخصية لها طبائع معينة، (أبو أيوب=
الجمل، أبو الحسل=الضب..) فهذه الكنى حيلة سردية تهدف إلى تعميق الشخصية والربط
بينها وبين طبيعتها المستمدة من حضورها في الثقافة العربية ومن ضمن ذلك مسألة
الكنى والأسماء بما فيها من قدم وعمق، تتجاوز حرصهم على استعمال الكنى للبشر
وإسباغ كنى خاصة على الحيوان، وكأنه بهذه التسمية أو الممارسة القادمة من عالم
البشر يرفعون مستوى الحيوان في ترقية فنية إلى مستوى الشخصية التي تمتلك كينونة
وتسمية ثقافية قصدية.
يسخر
أبو العلاء من الثقافة الرسمية في إمارات الغلمان، عندما يتصوّر الأمير ويصوره
عالما بالشعر دقيق الاهتمام به وبشؤونه ومصطلحاته وأنواعه (وهو يعلم أنه مجرد غلام
أو مولى رومي لغلام آخر من غلمان الحاكم بأمر الله) ولعل إغراق أبي العلاء في بعض
التفاصيل المعرفية مما يتصل بمسائل العروض واللغة والشعر والرجز وغير ذلك يأتي في إطار
هذه السخرية من الأمير وبلاطه وشعرائه ومثقفيه. وعبر التضخيم القصدي المبالغ فيه،
كان أبو العلاء يمزق صورة المملوك أو الغلام وهو ينفخ في صورته ويبالغ فيها ليسخر
منها بلغة يعرف أن الأمير وحاشيته عاجزون عن فهمهما وإدراك مراميها.
يقول
على لسان "بغله" الذي أراد صياغة رسالته صياغة شعرية لينال حظوة عند
الأمير "وقد بلغني أن للسيد عزيز
الدولة وتاج الملة أمير الأمراء مجلسا يجتمع فيه الفقهاء وأهل الكلام والأدب
والشعراء، ولو تحرى فيّ المتطوع متحوب فقادني برسني حتى أقف من ذلك المجلس بمرأى
ومسمع لألقيت مسألة، ثم فرّعتها فخاض فيها الفقهاء والمتكلمون والشعراء سحابة
ليلتهم تلك..."ص189. بغل أبي العلاء يبدي الرغبة المكبوتة عند أبي العلاء
نفسه لتحدي ذلك المجلس وإحراجه، ويتفرع عن هذه الفكرة مسائل تتحدى الثقافة السطحية
لمجلس الأمير وحاشيته الثقافية، وتتضاعف هذه السخرية عندما ترد المعرفة على لسان
الشاحج وليس لسان أبي العلاء، ولا شك أن التحدي هو تحدي أبي العلاء نفسه، ولكنها
طريقة تمثيلية أرادها مواربة بعض الشيء على لسان بغله الذي رسم صورته رسما يجعلنا
نتعاطف مع شكواه من الآدميين، ونحترم ثقافته في مقابل ثقافة الغلمان والموالي
الذين تولوا مدناً وإمارات ذات قيمة ودلالة في تاريخ الحضارة العربية. ومع أنه
يتظاهر باحترام الحضرة العالية حضرة الأمير وأتباعه، يتظاهر باحترام السلطة
وثقافتها على نحو يتضخم شيئا فشيئا حتى يتحول من الجد إلى الهزل، فإنه لا يكتفي
بما يتكشف من تلميح ساخر، بل ينتقد أحيانا انتقادا صريحا بعض ظواهر تلك الثقافة،
من مثل نقده للمديح والتكسب على لسان الشاحج.
يعيد
أبو العلاء في رسالته صياغة أطراف كثيرة من الثقافة العربية ولكنه لا يوردها في
صورة "معلومات" وإنما يكيفها مع طبيعة الرسالة السردية، فترد في سياق
قصصي على ألسنة الشخصيات، أو في سياقات سردية فرعية، إنه لا يستشهد استشهادا صريحا
أو مباشرا، ولا يسجل أو يدون روايات وأخبار تجميعية، وإنما يعيد توظيف المادة
التراثية، بشكل جديد، سواء من ناحية تعديل الصياغة، أو من ناحية تأويل الدلالات المستمدة
من تلك المواد المستعملة، تتحول تلك المادة إلى أحد خيوط هذه الرسالة وأحد خيوط
ثقافة المعري الواسعة العميقة. وفق آليات معقدة من التناص والتلويح والتعريض والترميز.
لم
يكن أبو العلاء يكتب، لأنه ببساطة أعمى، ولذلك كانت طريقته تعتمد على
"الإملاء" وهذا له أهميته في إنتاج النص وتأليفه، لأنه ينتج وفق طريقة
شفاهيّة لها علاقة بالمشافهة والصوت، ومع ذلك فليس أبو العلاء مثقّفا شفاهيا،
بالمعنى الذي يفهم من الشفاهية، لأن ثقافته ثقافة كتب أو مستمدة من مصادر مكتوبة
إضافة إلى المنابع الشفاهية، إنها ثقافة "كتابية" بوصفها قادمة من
الكتب، لكنه سمعها ولم يقرأها، ثم إنه نقل تفاعله معها بأسلوب الإملاء الشفاهي
الذي يراعي الكتابة، فبجواره ناسخه أو كاتبه الذي يملي عليه، هذه الطريقة
التأليفية تبدو لنا جديرة بالانتباه، وبالفهم في سياق مختلف عن السياق الاعتيادي
لمسألة الشفاهية والكتابية.
اللغة:
ثمة قصدية نحو شيء مما يمكن تسميته بـ "العنف اللغوي"، حيث يتقصد المعري
تعقيد لغته، معجما وتركيبا ودلالة، ويلجأ إلى تكثير الغريب والحوشي وكأنه يواجه
بهذه اللغة العنيفة ذلك "العنف المفرط" لأبناء آدم عامة أو من عرفهم من
أبناء عصره(ص173) وخصوصا طبقة الحكام أو السلطة التي يتظاهر بمراسلتها، وهو في
جوهر الأمر يواجهها ويقصفها بلغته العنيفة. وأكثر من ذلك أنه يتلاعب بهذه اللغة
العنيفة في مواقف بعينها، بحيث يوظفها توظيفا قصديا له موقعه في البناء الإجمالي
للرسالة: يلجأ إليها مثلا في مواقف الأدعية والابتهالات الدعائية التي تكاد تأخذ
فيها اللغة وظيفة سحرية كأنه يطابق بين القول والفعل المعبر عنه.
الأمثال:
للمثل أكثر من دلالة أو معنى، ولكن المشترك بينها مسألة المشابهة والمماثلة، ونعرف
شيئا بارزا من المثل السردي في كليلة ودمنة وما سبقه وتبعه من آثار استعملت المثل
السردي، ولقد وظف أبو العلاء شيئا من هذا في رسالته في مواقف ومواقع متعددة، جعلت
من هذا النوع الفرعي نوعا مغذيا أو متضمنا مع أنواع أخرى اجتمعت تحت مظلة كبيرة هي
ما سماه تسمية شاملة (رسالة). في ص 165 على سبيل المثال: "وإنما مثلك فيما
سألتني من إبلاغ مدحتك إلى حضرة السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء مثل
الذئب لمّا وصفه الحارثي وذكر ماء ورده فقال...." ففي هذا المثال يظهر شيء من
تلك الطريقة التركيبية التي لجأ إليها أبو العلاء في حيله السردية: استعمل المثل
على لسان شخصية في سياق المحاججة والرد والمواجهة مع شخصية أخرى، واستمد مضمون
المثل المحاجج به من شعر قديم للنجاشي الحارثي (شاعر مخضرم) أي أنه حوّل معرفته
بشعر الحارثي إلى مادة سردية اندمجت في رسالته على لسان إحدى شخصياته، وفي ذلك ما
فيه من تركيب وتوظيف يختلف عن طريقة الاستشهاد التقليدية المألوفة.
وقد
ينقلنا هذا إلى حيلة أو أسلوب آخر يتراءى لنا أنه قادم من الثقافة الفلسفية
والكلامية للمعري، وهو ما يسمى بالأسلوب الحجاجي، يتراءى فيه حجاج الجاحظ في
سردياته، وتتراءى فيه لغة علماء الكلام وأهل الاعتزال، مع ما أضافه أبو العلاء من
إشارات إلى جدل السفسطائية الذي أشار صراحة إليه..ولكنه يرد كذلك في سياق سردي،
وليس بصيغة فلسفية جافة يقصد منها الجدل الفعلي. (ص178).
يميز
المعري تمييزا لافتا بين الجنس والنوع يحسن بنا الوقوف عنده، وضمه إلى الجدل في
هذا المنحى. (ص181) "وقد تقدم أن الشعر نوع من جنس، وذلك الجنس هو الكلام.
وإذا صح ذلك قلنا: إن الشعر جنس والرجز نوع تحت.." ونلحظ الصياغة المنطقية
التي يدمجها المعري بسرده ونثره في المواقف التي تقتضي ذلك، وخصوصا في الأقسام
التي ناقش فيها قضايا شائكة كعلاقة الرجز بالشعر وشعرية الرجز، وناقش قضايا عروضية
وإيقاعية، وناقش صلة النبي بالشعر وتأويل معنى "وما علّمناه الشعر وما ينبغي
له" فوافق على أنه لم يكن شاعرا، ولم يتعلم قول الشعر، ولكن ذلك لا ينفي عنه
معرفته بالشعر كجزء أصيل في ثقافته، ولذلك فهذه الآية وفق المعري جاءت جوابا
"لقول من قال من الكفار: الذي جاء به محمد شعر، لا أنه بهذه الآية نفى عنه
المعرفة بهذا الضرب" ص185.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق