((
علي فودة ))
فلسطيني
كحدّ السيف
·
د.
محمَّد عبيد الله
تركَ علي فودة خمس مجموعات شعرية،
ورواية واحدة ومجموعة واسعة من القصائِد والكتابات غير المجموعة، مما نشر في مجلة
(الرصيف) أو ظلّ في دفاتر الشاعر وأوراقه المتناثرة. وقد أهمل نتاج علي فودة ولم
يدخل إلى الدراسات الخاصة بالشعر الفلسطيني أو العربي عامّة، ولم يتجاوز الاهتمام
به تلك الكتابات التي رافقت استشهاده العام 1982، وقد كتبها عنه أصدقاؤه ومعارفه،
ثم تُركَ لاحقاً للإهمال والنسيان (1)، وهو أمر لا تتحمله جهة أو مؤسسة
بعينها وإنما هو من مظاهر الحياة الثقافية المعاصرة ، في حقبة أفولها وتراجعها عن
عهودها الذهبية، ولم يفكر أحد في إصدار الأعمال الشعرية لفودة إلا بجهود شخصية وهو
ما تم مؤخرا ، ولكن هذا لا يكفي فما زال الجهد ناقصا ولا يكتمل إلا بجمع أعماله
الكاملة لا الأعمال الشعرية وحدها ، وهو أمر يجب أن ينجز في وقت قريب، لا وفاءً
لشاعر ومثقف شهيد أو راحل فحسب، وإنّما عملاً بمستحقّات الواجب الثقافي والإبداعي،
فـَ (علي فودة) رحل ولن يعنيه صدور أعماله أو إهمالها، لكن تجربة متفردة مثل
تجربته لا ينبغي أن تظل في الهامِش، بل لا بدّ من إعادة الاهتمام بها وتقديمها
للقارئ الجديد، ولا بدّ أن تأخذ موقعها الذي تستحقه في مسيرة الأدب الفلسطيني
المعاصر خاصة، ومسيرة الشعر العربي الحديث عامّة.
أضواء أولى
اسمه الكامل (علي يوسف أحمد فودة) ولد
في قريته الفلسطينية ( قـنّـيـر) من قضاء حيفا بتاريخ 1/4/1946 (2)،
والأول من نيسان (أبريل) مرتبط بِما يُعرف بـ (كذبة نيسان)، ولسنا نعرف إن كان
الشاعر قد انتبه إلى كذبة الحياة، وإن كان هذا التوقيت أحد الأسباب الخفية التي
جعلت منه شخصية مختلفة عانت من الكذب والإحساس بالخذلان من الأصدقاء والبشر الذين
تعرّف إليهم، كما يكشف عن ذلك في تضاعيف شعره.
ولم يطل به المقام في القرية الأولى،
التي فتح عينيه على عوالمها ومكوّناتها إذ حلّت به النكبة المزلزلة بعد عامين من
مولده، فانتزعته طفلاً ورمت به إلى غربة موجعة لن يفيق من الإحساس بها حتّى
استشهاده في سن السادسة والثلاثين، وقد ترافقت النكبة مع فقدانه لأمه، التي سيظلّ
لها حضور عَطِر في شعره، وكأن الأم والأرض امتزجتا في نفسه بفعل الفقدان، فغدت كل
واحدة منهما تعني الأخرى، وغدا فقدانه للوطن أو الأرض نوعاً من فقدان حنان الأم
وحضنها الدافئ، وهذا عامل آخر عزّز مشاعر الفقد والاغتراب، مثلما هيّأه للقصيدة
فيما بعد.
وقد لجأ مع أسرته إلى القسم الشرقي من
فلسطين، مما عرف باسم (الضفة الغربية)، وأصبح يتبع الإدارة الأردنية قبل حدوث نكسة
1967، واحتلال الضفة. وقد درس (علي) في طولكرم، وأتَمّ فيها الثانوية العامة سنة
1964. وانتقل إلى الضفة الشرقية ليكمل تعليمه في معهد المعلمين في حوّارة، وتخرّج
في هذا المعهد سنة 1966.
وقد بدأ حياته العملية مبعنوان.ي مدرسة
(أم عبهرة) في ناعور (شمال عمّان)، وقضى فيها أربع سنوات (1966-1970)، ويبدو أنّ
هذه المرحلة ذاتها شهدت قصائِده الأولى التي ظهرت في مجموعته الأولى:
"فلسطيني كحدّ السيف" العام 1969، ويبدو أنه استبعد كثير من القصائِد
المبكرة، ونرجّح أنه كتب مقطوعات أو قصائِد على الشكل العمودي، وبعض الأناشيد
الوطنية الغنائية، لكنه استبعد كل ذلك من المجموعة المطبوعة.
وما يدلل على ذلك قصيدة بعنوان ...
"يا بلادي" مكتوبة لتكون نشيداً غنائياً، ربما كتبه لطلبته في المدرسة،
وقد ظهر قسم من هذه القصيدة في مجلة "رسالة المكتبة" التربوية –
الثقافية العام 1969، ولكن نشر القصيدة في باب (رسائِل المعلمين) وليس في الأبواب
الأساسية يشير إلى أن تجربة الشاعر حتى ذلك الوقت لم تكن معروفة، أو لم تكن تقدّر
وفق المستوى الذي يطمح إليه، وقد عرّفت المجلة المذكورة بهذه القصيدة بأنها
"قصيدة قصيرة"، يتغنّى بها الشاعر بمحاسن بلاده الجميلة، التي يهبها
روحه فداءً لها، أما نص القصيدة فهو على النحو الآتي (نعيد نشرها لأنها من النصوص
المنسية) (3):
(( يا بلادي ... يا بلادي
فيك أحلامي ومجدي كلّما هبّت رياح منك في قلبي جراح لن أبالي في الردى لن يسوموك أذى انتظرني ... يا وطن أنتِ يا أحلى وطن |
|
يا عروساً في الفؤاد
أنتِ يا أغلى البلاد سوف أمضي للسلاح أنتِ يا أغلى البلاد لن أبالي بالعِدا أنتِ يا أغلى البلاد دون خوفٍ أو وهن أنتِ يا أغلى البلاد )) |
وعلى بساطة القصيدة مبنىً ومعنىً، فإنَّ
دلالتها الجوهرية ستظلّ محرّكاً واضحاً في تجربة الشاعر في أعماله وقصائده
التالية، وسيظلّ متعلقاً بالوطن، مع تطوير قصيدته إلى شكل القصيدة الحرة (قصيدة
التفعيلة)، وسوف يمضي إلى السلاح، كما لو كان مكتوباً عليه أن يسير رحلةً واضحة
المعالم في وعيه وروحه.
وسيظل الشاعر في عمّان في السنوات
التالية، حيث يقيم في (جبل النظيف) وأحياء أخرى، ويعمل في مدارس عمّان حتّى العام
1976. وتجربته العمّانية واضحة في شعره، حيث سيظلّ يذكرها ويكتب عنها ضِمن رؤيته
الخاصّة.
وقد شهدت الحقبة العمّانية النمو المبكر
لتجربة الشاعر ما ظهر في مجموعته الأولى التي أشرنا إليها "فلسطيني كحدّ
السيف"، وفي مجموعته الثانية: "قصائِد من عيون امرأة – 1973"، كما
أن عدداً من قصائِد هذه المرحلة تأجل نشره حتّى ظهر في مجموعات متأخرة للشاعر،
ويبدو أن حقبة عمّان هي الأغزر من ناحية الإنتاج الشعري، ومن خلال مقارنات أجريتها
بين القصائِد المنشورة للشاعر في مجموعتين للشاعر، فظهرت بعد كتابتها بحوالي عشر
سنوات، ومعنى ذلك أن مجموعات الشاعر لا تمثل مراحل متتابعة واضحة من ناحية مراحل
الكتابة وزمنها، بل إنه عندما ينوي إصدار مجموعة جديدة كان يختار قصائِد قديمة
وأخرى جديدة، وربّما يبني اختياره على علاقات أو روابط دلالية أو شكلية، لكن تاريخ
نشر المجموعة يظل تاريخاً عاماً، لا يشير إلى مرحلة كتابتها أو موقعها ضمن تجربته
العامة. كما أن عدداً من قصائده الموجودة في المخطوط الذي بين يدي لم يجد طريقه
للظهور في مجموعة شعرية، وربما لو امتدّ العمر بالشاعر لوجد لها مناسبة للنشر كما
فعل في قصائد أخرى من المخطوط نفسه الذي يعود تاريخه من (1970) إلى (1973).
وقد انضمّ (علي فودة) إلى (رابطة
الكتّاب الأردنيين) بعد تأسيسها العام 1973، وقد عرف عنه مشاكساته المستمرة مع
أصدقائه ومعارفه من قيادات الرابطة وأعضائها، وقد صوّر بعضهم في روايته الوحيدة
"الفلسطيني الطـيّب" التي صدرت بعد مغادرته لعمّان العام (1979)، وما
يوضح جانب الرفض الحاد في شخصيته لمن يختلف معهم، ما ذكره المرحوم عبد الرحيم عمر
في مقالة عنوانها : "علي المتمرّد الذي سكت"، وفيها يقول :
"المسافة بين الكلمة والموقف عنده كانت معدومة، ولعل في هذه الحقيقة تكمن
المعضلة التي زامنت (علي) طوال حياته فنصبت بينه وبين الآخرين فواصِل من جبال
شاهقة، وجعلته وهو شاعر الثورة والحياة والمبدأ يختار في نهاية المطاف أن يكون
وحيداً وسط آلاف الثوار، وغريباً في بلاد قاده إليها رفضه".
ويشير عبد الرحيم عمر إلى ...
"موقف الرفض المطلق، والاستعداد الدائِم أن يقف ولو واحداً وحيداً إلى جانب
قضيته قد طبع حياته، وجعلها مليئة بالصراع الداخلي بينه وبين نفسه، مثلما جعلها
مليئة بالصراع بينه وبين الآخرين ... ولعلّ حدّة هذا الصراع هي التي أوحت له
بكتابة روايته الوحيدة "الفلسطيني الطيّب" والتي أشار فيها إليّ من خلال
شخصية (عبد العظيم قمر)، ومع أن الرواية تتناول قضايا كثيرة إلاّ أنّ إحساسه
بالمرارة نتيجة هذا الصراع يكاد يكونها لونها الأكثر بروزاً".(4)
وقد غادر (فودة) عمّان سنة 1976 إلى
بغداد، ربّما بحثاً عن فضاء أقل ضغطاً على روحه، وأكثر رحابة، وكتب في بغداد بعض
القصائِد التي ظهرت في "منشورات سرية للعشب" عمله الأخير، لكن لم يطل
مقامه في بغداد، فانتقل إلى الكويت مدة قصيرة، ثم رحل في العام نفسه (1976) إلى
بيروت، لينضمّ إلى صفوف المقاومة الفلسطينية، إلى جانب عدد كبير من المثقفين
والمبدعين، ممن رأوا أن خلاصهم مرتبط بالمقاومة، لكن (علي) الذي يحمل في شخصيته
عوامل الرفض والتمرُّد على نحو شبه فطري، ظلّ أميَل إلى الشغب والصعلكة، ولم يستطع
أن يكون جماعياً أو منضوياً تحت لواء المؤسسة، ولذلك تعرّض للسجن في بعض الفترات،
ثم أصدر مع بعض أصدقائه مجلة باسم (رصيف 1981) لتمثّل ثقافة الهامِش والاختلاف،
بعيداً عن المؤسسة، وقد صدرت منها بضعة أعداد، قبل أن يختلف (علي) مع أصدقائِه
الرصيفيين مرة أخرى، ويواصل إصدارها في صورة جريدة، بصفة فردية مستقلّة.
وفي بيروت ظهر ديوانه الثالث:
"عواء الذئب" العام 1977، ثم روايته الوحيدة: "الفلسطيني
الطيّب" 1979، وديوانه الرابع: "الغجري" 1981، وديوانه الأخير:
"منشورات سرية للعشب" 1982.
ومن يتأمّل غلاف ديوان
"الغجري"، سيلاحِظ رسماً لصورة الشاعر (صورة جانبيّة للوجه والرأس)
وسيلاحظ بقعة الدم النازف من جانب الرأس والفم، كمن أصيب بشظية أو طلقة في رأسه،
أو أطلق النار على نفسه (هل كان علي يفكّر في الانتحار؟)، وهذه الصورة المعبّرة
تبدو في هيئة نبوءة لمصيره المحزن الذي لم يتأخر كثير عن صدور هذا الديوان (بعد
عام واحد). وربّما تكون هذه الصورة التعبيرية النازفة التي أشرف عليها فودة بنفسه،
ما يمثّل إحساسه بالموت، أو بالنحو الذي سيموت عليه، وهو هاجِس واضح في شعره، وفي
إحساسه بالقدرية والرّصد.
ولعلّ (علي فودة) الشاعر الوحيد الذي
قرأ نعيه، وتابع وقع موته أو استشهاده على الآخرين، إذ أصيب بشظية في شوارع بيروت،
ونقل إلى المستشفى، فأذيع نبأ موته وكتب أصدقاؤه مراثيهم ووداعهم، لكن الشاعر
استيقظ – مؤقتاً – من الموت، وقرأ الصحف، ورأى كم يحبّه الآخرون، حتّى أولئك الذين
رفضهم أو اختلف معهم، وبعد ذلك عاد إلى الموت النهائي في 20/8/1982.
وقد وظّف إلياس خوري قصة موت (علي فودة)
في روايته "باب الشمس"، لِما في هذا الموت من اختلاف ودلالة على الأحوال
الفلسطينية الفريدة حتّى في استشهادها وغيابها. وتجيء القصة على لسان شخصية روائية
راقبت المشهد (مشهد علي فودة وجريح آخر) في المستشفى:
"أذكر أنه جاء جريحاً إلى
المستشفى، جلبوه مع جريح آخر، وكان الدم يغطّيهما، الجريح الأول كان شبه ميت، ودمه
متجمّد على جسده اليابس. لا أعلم من كشف عليه وأعلن وفاته. فتمّ نقله إلى برّاد
المستشفى تمهيداً لدفنه. ثم اكتشفوا أنه حي، فنقل على عجل إلى غرفة العناية
الفائِقة، وهناك اكتشفنا أنه كان شاعراً. الصحف التي صدرت في بيروت، خلال الحصار،
عنه المراثي الطويلة. وعندما استيقظ الشاعر من موته، وقرأ المراثي شعر بسعادة لا
توصف. كان وضعه الصحي ميؤوساً منه، فقد أصيب في عموده الفقري، وتمزّقت رئته
اليسرى، لكنه عاش يومين، كانا كافيين كي يقرأ كل ما كتب عنه. قال إنه سعيد، ولم
يعد يهمّه الموت، فلقد عرف اليوم معنى الحياة، مـن خلال الحب المصنوع مـن الكلمات.
كان علي – وهذا هو اسمه – الميت السعيد الوحيد الذي رأيته في حياتي، كأن كل آلامه
امّحت. عاش في سريره وسط أكوام المراثي، يومين جميلين، وحين مات، كان كل شيء قد
سبق أن كُتِبَ عنه، فنُشِر نعيه الثاني في أسطر قليلة في الصحف، ولم ينتبه أحد
لموعد تشييع جنازته، فشيّعناه في المستشفى إلى مقبرة المخيّم، ولم يكن عددنا
يتجاوز أصابع اليد الواحدة".(5)
هذه السعادة التي استشعرها في لحظاته
الأخيرة ربّما تكون السعادة الأوضح في حياته، وهو الذي ظلّ يحسّ بالإقصاء،
وبالصدام مع الآخرين، ليس لأنهم ضدّه، وإنّما لحساسية خاصّة عنده، ولتركيبته
النفسية الغريبة، التي صعّبت عليه التواصُل مع غيره، وجعلته نهباً لمشاعر الوحدة
والغربة، والخذلان.
التجربة الشعرية
صدرت للشاعر الراحل خمس مجموعات شعرية بين عامي
(1969-1982) وهي المجموعات التالية، وفق ترتيب صدورها:
1. فلسطيني كحدّ
السيف، منشورات عويدات، بيروت، 1969.
2. قصائِد من عيون
امرأة، منشورات عويدات، بيروت 1973.
3. عواء الذئب،
منشورات فلسطين الثورة – م.ت.ف. الإعلام الموحّد، 1977.
4. الغجري، منشورات
عويدات، بيروت، 1981.
5. منشورات سرية
للعشب، دار العودة – اتّحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، بيروت، 1982
(( فلسطيني كحدّ السيف )
وضعت عبارة (من أدب المقاومة) بوضوح على
غلاف الديوان، وربّما يكون هذا الوصف اقتراحاً من الناشر ليتلاءَم الكتاب مع
ارتفاع شأن المقاومة وشعرها في تلك الحقبة، رغم أن تعبير "شعر المقاومة"
كان يطلق في النصف الثاني من الستينات على أصوات شعرية فلسطينية بزغت في الأرض
المحتلّة العام 1948، وكان يدل على (محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زيّاد) بوجه
خاص. لكن هذا التعبير بمعناه الواسع يُمكن أن يمتدّ ليشمل تجارب شعرية فلسطينية في
الوطن المحتل أو في الضفة الغربية أو في المنافي والمهاجر، أي في حال إطلاقه على
الشعر الذي يحمل وعي المقاومة ودعوتها، يتّصل اتّصالاً وثيقاً بفلسطين وقضيتها
وثورتها.
وقد أهدى علي فودة ديوانه إلى أهل الأرض
المحتلة الذين تمسّكوا بأرضهم ورفضوا مغادرة وطنهم، وجاء الإهداء واضحاً صريحاً
بالصيغة الآتية: "إلى من عشقوا التراب فظلّوا هناك ... في حيفا ويافا، في
القدس ونابلس، في قنّير ودير ياسين. ظلّوا مع الأشجار والريح والبحر، ظلّوا يقاومون!
إلى هؤلاء الناس أهدي قصائِدي". (فلسطيني
... ص 5).
وبهذا المعنى اتّصل الديوان بالمقاومة
نيّةً ودعوة، وجاءت قصائِد الديوان في مناخ شعر المقاومة الذي بدأ رحلته في
المرحلة نفسها، ولذلك فإن قصائِد (فودة) – في هذا الديوان – لا تبعد عمّا عرفناه
في أعمال أخرى لدرويش والقاسِم وزيّاد وآخرين، سواء في المعاني الوطنية التي تعلن
عنها القصيدة، أو في الأسلوب/ التعبير الذي شكّل نمطاً تميّز به شعر المقاومة
عامّة. وهذا التشابه قد يشير من جانب إلى تفاعل (فودة) مع المقاومة وشعرها، لكنه
يشير، أيضاً، إلى عوامل تتصل بوحدة المناخ وطبيعة المرحلة وأساليبها الشعرية، وهذا
يعني أن نعترف للشاعر بدوره التأسيسي (مع غيره من شعراء المقاومة) وأن لا نحمل ما
جاء به على محمل التأثُّر بغيره إلاّ في نطاق محدود.
وقصائِد الديوان، جملةً، قصائِد
فلسطينية صريحة في انتمائِها وفي وعيها بالوطن، وإعلانها التمسُّك به والدفاع عنه،
أي أن الوعي بالهوية الفلسطينية ومحاولة تثبيتها والدفاع عنها هاجِس مركزي في هذا
العمل، خصوصاً انه جاء بعد نكسة حزيران 1967، التي حملت معها قدراً عالياً من
الإحباط وتمزُّق الآمال، وبالرغم من ذلك، فإن الشاعر ظلّ متفائِلاً تجاه المستقبل،
ومع أنه رسم صوراً متعددة للأحوال الفلسطينية مما نتج عن حزيران الأليم، فإنه ظلّ
مؤمناً بالأخضر القادِم.
وفي قصيدته الأولى: "فلسطيني كحدّ
السيف" التي حمل الديوان اسمها، يكتب الشاعر قصيدة طويلة نسبياً، يتّضح فيها
الإيقاع الغنائي الشجي، عبر الاعتماد على تغعيلة بحر الوافر (مفاعلتن ب–ب ب–) وهي
تفعيلة ذات بعد غنائي متحرّك، ومع تضافر هذا الوزن مع التقفية المتقاربة اكتسب
القصيدة إيقاعاً جلياً مؤثراً، وتبدأ – مثلاً – بالمقطع التالي، الذي يدلّنا على
مدى ارتفاع القيمة الإيقاعية متضافرة مع الدلالة في قصائِد الشاعر من مراحله
المبكرة:
"فلسطيني ...
فلسطيني ...
أقول لكم بأني مثل
جدّي
مثل زيتوني: فلسطيني
فلسطيني على مرّ
الدهور أنا
فلسطيني
فلا شرقٌ ولا غربٌ
ولا الأيام تشفيني
إذا ما الكرب عشش في
شراييني
فلسطيني". (الديوان
ص 7)
فنلاحِظ التمسُّك بالهوية، وإعلاء الذات
الوطنية مما يبدو في تكرار لفظة (فلسطيني) وفي المعاني الواضحة في هذا المقطع وفي
القصيدة كلّها. وفي المقاطِع التالية سيرسم الشاعر صلات هذا الصوت المتكلّم (وهو
الصوت الذاتي) مع الجدّ والأب والأم والأخت ومع القرية (المكان)، أي أنه يعتمد على
فكرة "الأسرة" ليعيد جمعها في القصيدة، بعدما مزّقها الواقع وشتتتها
الحرب، وفعل الزمن المختلف، ومن خلال تعرّض القصيدة لهذه الشخصيات يرسم الشاعر
أطرافاً من النضال الفلسطيني ومن خصوصية الشخصية الفلسطينية، كما تنفتح القصيدة
على فضاء من التذكار ومن الماضي البعيد / القريب في القرية المحتلّة وهي ذاته قرية
الشاعر (قنّير) التي انتزع منها في السنة الثانية من عمره.
وبالرّغم مما تكشف عنه القصيدة من وجوه
المعاناة بسبب الاحتلال، فإن الشاعر يحافظ على تفاؤلهن من خلال التمسك بأحلام
الثورة والتحرير، فيخاطِب القرية: "قنّير يا قنّير آتٍ ... ألف آت/ رغم أنفاس
الحياة"، وينهي القصيدة بـ "فلسطيني .../ فلسطيني ... كحدّ السيف
كالمنجل، أصول أصول لا أسأل".
ومن المميز في هذه المجموعة – وفي
قصائِد المجموعة نفسها – توظيف الشاعر لمقاطع متعددة من الشعر الشعبي الفلسطيني،
مما يُغنّى في المناسبات المختلفة، وهم نمط من التناصّ القصدي الذي يهدف إلى تقريب
القصيدة من المتلقّي (الفلسطيني خاصّة) مثلما أنه يعيد الحياة إلى تلك المقاطِع
بوضعها في سياق شعري متجدّد، كما أن هذه الأشعار تضفي على القصيدة ملامح وطنية من
الخصوصية ووضوح الانتماء، وهو ما تهدف إليه القصائِد عامّة.
ومن أمثلة هذا التوظيف للموروث الغنائي
ما جاء على لسان الأخت وهي تتذكر الأب الراحل:
"وأختي تعرف
الحارات في (قنّير) مذ كانت
وتعرف أن والدها
مسيح القرية السمراء
قد كانا
... ...
وتعرف أنه قد طار
شوقاً للتراب – كسكة المحراث
رفرف ثم رفرف وانطوى
للأرض قرباناً:
والبقر تنعى عليه
يا ما كربل يا ما
غربل
يا ما هال التبن
عليه".
فالصورة هنا صورة الأب، المرتبط بالأرض
(الفلاّح الفلسطيني) ويجيء الشعر الشعبي ليعمّق هذا المعنى، ويتمم التعبير الشعري
الذي يريده الشاعر، وبذلك يصبح المقطع المقتبس كأنه جزء من القصيدة معنىً ومبنىً.
وقد تكرّرت هذه الطريقة في قصائِد متعددة من المجموعة نفسها، وفي مجموعات تالية
للشاعر، أي أن الشعر الغنائي الفلسطيني يشكل مصدراً ثرياً لهذه التجربة، وهو يلتقي
مع الروح الشعبية للشاعر، ومع اقترابه من الحياتي واليومي ومن طبيعة المعيش
الفلسطيني دون الوقوف عند المعاني العمومية الشاملة.
وفي القصائِد الأخرى تظلّ الأرض حاضرة،
باسمها أو باسم نباتها أو إنسانها مما هو واضح في العناوين (قصائد للأرض، عاشق
السنابل، حبيب التراب، عروس البرتقال، أغنية للضفة الغربية، فلسطين أمي... الخ)،
ففي هذه القصائِد وما يشبهها نجد التركيز على الارتباط العاطفي بالأرض، وهو ارتباط
يأخذ صيغة (الحب) أي أنه يرد في نسيج وجداني يدمج بين الأرض والمرأة، على نحو ما
شاع في شعر المقاومة منذ بداياته، وتتداخل مع هذا الحب أنفاس رومانسية محببة، تغذي
النسيج العاطفي وتقويته، ومصدر هذه الأنفاس ذلك التعلق بالطبيعة وبمكوناتها
المختلفة، كوطن مفتقد، وكمكان آمن لم يعد موجوداً أو متاحاً. وقد يلجأ الشاعر إلى
رموز بسيطة – إضافة إلى المرأة – كالسنبلة والغزالة والنجمة والسندباد وما يشبهها،
ولكن لا تبلغ حدود الرمز بمعناه الفني المرتفع، وإنّما تظلّ في حدود بسيطة واضحة،
تعبّر عن رحلة الفلسطيني الدائِمة، وعن تعلّقه بأرضه، ورغبته في العودة إليها.
ويبدو معجم الأرض والنبات ومتعلقاتها
أوسع الظواهر الدلالية/ المعجمية ولذلك نجد مفردات مثل: (الأرض، الحقل، الدوالي،
الميجنا، طابون الكستناء، المحراث، الدفلى ...) وهو معجم فلسطيني مرتبط بالوطن،
ومعبر عن الشوق إليه، والانتماء إلى ترابه.
وفي "ثلاث قصائِد على هامش
حزيران" تعبير موحٍ عن مناخ حزيران، ففي "مخاض" تصوير لِما سبق
الحرب من أمل ورغبة في تجاوز الهزيمة ومخاض الأمة، أي عبر فعل الولادة والتجدد،
ولقد لجأ إلى صورة المطر، بِما يحمله من دلالات موحية، لكن السحابة مرّت ولم تمطر:
"كسحابة في
الصيف – أواه – مضت
وتبعثرت
لم ينـزل المطر
لذا لم يزهر
الشجر" (ص 64).
وفي القصيدة الحزيرانية الثانية
"هدية الشتاء" صورة لأول شتاء بعد حزيران، تعبيراً عن معاناة النـزوح
وعذاباته، أما في "انتظار العار" فيصوّر فيها الفلسطيني واقفاً في طابور
وكالة الغوث، في انتظار المؤن، وهي وقفة ذلّ، وامتهان، تعيها شخصية الشيخ الستيني
الذي تتحدث عنه القصيدة، وهذا الوعي بالكرامة الممتهنة يعبّر عن عدم الرضى،
بالواقع المعيش، مثلما تكشف عن وجوه جديدة من المعاناة والعذاب مما جاء لاحقاً لحزيران
في المستوى الإنساني والاجتماعي والمعيشي.
ويجرّب الشاعر نَمَط القصيدة القصيرة
حيث يكتب اثنتي عشرة قصيدة من نوع الومضة أو القصيدة المكثّفة ويجمعها تحت عنوان
واحد: "سفر الموت والدم" وهي تشكّل مشاهد مقتطفة من الروح الفلسطينية في
معاناتها وطموحها وتطلعاتها، وأكثرها ما يبدو مكتوباً بعد حزيران أو في مناخه، مثل
"مشهد في حزيران" و"خريف البطولة" و"جسر الآلام"،
وفيها حضور للطيور (رمز الحرية والانطلاق) مثلما يتكرر فيها معجم الأرض والنبات
ومفردات الوطن والشجر، وغير ذلك مما يتّصل بحياة الفقراء والغرباء.
وفي بعض القصائِد نجد مؤثرات من المناخ
الماركسي/ البروليتاري، حيث التركيز على العمال والكادحين والفقراء، كما هو الحال
في قصيدة "غداً يزهر الدم" التي يتجاوز فيها المصاب الفلسطيني ليراه في
سياق العذاب الإنساني عامةً، فيذكر مثلاً: موسكو، لينينغراد، القوزاك ... الخ :
"قابلت جندياً
من (لينينغراد)
حدثني عن المدينة
وعن جراح ساقه اليسرى
أخبرني كيف تغنّ
بالسلاح
وكيف مات الناس من
أجل المدينة". (ص 86)
وفي مثل هذا الاتصال نوع من التضامُن
بين الشعوب المغلوبة المضطهدة، وقد شاع هذا اللون من الشعر (البروليتاري) في ظلّ
الامتداد الماركسي في تلك الحقبة، وفي مقطع آخر من القصيدة يخرج الشاعر من التعبير
عن الألم إلى التمرُّد على الواقع :
"حاورني الجندي
المجهول
- أنت فلسطيني؟
- ولي بطاقة من السكر
والطحين ...
- مزّقْ بطاقة العارْ
واحمل سلاح المجد
مرفوع الجبين". (ص 87)
ويتّضح الاغتراب وحسّ الغربة في جملة من
القصائِد مثل: "ثلاث قصائِد عن الغربة"، حيث يلجا السندباد (وهو رمز
سيّابي شهير) ليرسم صورة السندباد الفلسطيني المتكرر في اغترابه، كما يعبّر
بعاطفية عالية في "موال الغربة" عن مقدار الألم والإحساس بالعار، والشوق
إلى الأرض، في صورة تعبير وجداني محمّل بالتركيز العاطفي، والقيمة الإيقاعية
العالية.
وتختلط صورة الأرض بالألم ( نتذكر أنه
فقدهما معاً)، ويخاطِب الأمّ بصيغة التصغير (أميمة) شوقاً وتحبباً ... وينده قبرها
:
"وقبرك يا
أميمة/ أما زال الربيع يحيطه باللوف والشومر
وأشجار الجوافا حول
سور المقبرة
أما زالت تعربشها
فراخ الطير والعبهر". (ص 98)
وينهي قصيدته بتعبير صريح عن الحنين إلى
الأم – الأرض :
" حننت إليكِ يا
أمّي
حننت إليكِ في كلّ
المواسِم
وكم – والله أعلم –
كما أنا نادِم
إليك ... إليك يا أمي
أنا قادم ...
أنا قادم ...
أنا قادم ...". (ص
102)
وقد ظلّ نداء الأم وخطابها واستعادتها –
بالحنين والتذكر – ثيمة مركزية في شعر علي فودة، وكأنه بفقدها قد فقد الأمان كلّه،
ولعلّ هذا الفقد قد أثّر في التكوين النفسي للشاعر، وفي نُمو شخصيّته، وبالتالي في
شعره الذي كتبه انطلاقاً من هذا الفقد، أو كرجع بعيد له ...
وبصورة عامّة تبدو الأم عنده صورة
متداخلة وأحياناً موازية للوطن (أو القرية قنّير – قرية الشاعر) ولذلك نجده يعلن
رغبته واشتياقه لهما معاً، وتعبيره عن واحدة منهما، يشبه تعبيره عن الأخرى:
"خذني حبة القمح
التي بحواصل الأطيار
قد نامت
وفي قنّير فادفنّي،
فلن أندم". (ص 109)
وهناك ذِكرٌ لـِ (فتح) التي يبدو أن
الشاعر فرح بتأسيسها كحركة ثورية نضالية، رأى فيها سبيلاً لتحقيق الآمال
الفلسطينية، وهو يذكرها ذكراً موحياً دون مباشرة فجّة، مرتبطة بالتفاؤل والحلم
كقوله:
"وها قد عدت يا
أمي
وعشق الأرض يملؤني
فصبّي دمعك الغالي
بكأسي
لأجرعه وأسقي الأرض
من حبّي
فدمعك يا أميمة
كـَ (فتح) عند
شعبي". (ص102)
وجعل عنوان إحدى القصائِد "وكانت
ترانيم فتح"، ويعبر فيها صوت المتكلم/ الشاعر/ الفلسطيني عن تلك الأحوال
القاسية التي عاشها، ما أدّى لاحِقاً لتأسيس الحركة أو ظهورها، هذا يتبدّى في
القسم الأول من القصيدة، حيث يطيل الشاعر في سرد المعاناة التي تعلّل الوصول إلى
الترانيم فيما بعد:
"لأنّي بُليتُ بشتّى المحن/
تشرّدتُ في الطرقات/ نزفت دماً في الأزقّة/ عميت من الظلمات/ زرعت بقلبي شوكة/
لأني نسيت الحروب، توالت عليّ الكروب ... الخ". (ص
81 وما بعدها)
وبعد هذه المعللات يأتي المقطع الأخير :
"تنفّس حقدي
بوجه الطغاة
كرهت حليب السلاطين
دفنت جراحي وعار
السنين
... ...
زرعناه في حقلنا
حبوب ذرة/ سنابل قمح
فأزهر/ وأثمر
وكانت ترانيم
(فتح)". (ص 84)
وهكذا تبدو الصبغة الفلسطينية هي
المكوِّن الأساس لهذا الديوان، رؤية وتعبيراً، ويأتي التعبير أميل إلى الوضوح وإلى
الصوت المرتفع إيقاعاً، وصياغة، وبصورة عامّة لا نجد الشاعر يعنى بالتصوير أو
بالتعبير المجازي إلاّ قليلاً، فهمّه الأساس هو أن يعبّر عن معانٍ ومشاعر تختزنها
أعماقه، فضلاً عن أنّ هذا العمل هو الأول، والشاعر ما يزال في مقتبل العمر والشعر.
ومع كل ما يمكن التقاطه من عيوب الصياغة والنسيج الشعري، فقد كشف الديوان عن صوت
فلسطيني موهوب مميز، حمل هموم شعبه وعبر عنها ما أمكنته موهبته إلى ذلك سبيلاً
(نذكر أنّ عمر الشاعر عند صدور الديوان كان ثلاثة وعشرين عاماً، وقد كتبت القصائِد
قبل هذه السن).
(( قصائِد من عيون امرأة ))
صدر ديوان علي فودة "قصائِد من
عيون امرأة" العام 1973، وهو ديوان حب للمرأة وللوطن وللوحدة العربية، أي أن
فيه تنويعاً مختلفاً عن الديوان الأول (الذي تركّز على الأرض وحدها)، وقد قسمه
الشاعر إلى لوحات (وفق الروابط الموضوعية بين القصائِد) على النحو الآتي:
- اللوحة الأولى :
الحب الشرير، وفي هذا القسم إحدى عشر قصيدة حول الحب بمعناه الإنساني المباشر،
ولعلّه يرتبط بتجربة حبٍّ عاشها الشاعر، ثمّ أخفق فيها كما يتبدّى من القصائِد.
- اللوحة الثانية :
أوراق من دفتر الأحزان والسفر، وفيها قصائِد تعبّر عن الحزن والغربة، وعن الأصدقاء
وخياناتهم، وعن صلته ببعض الأماكن (المقهى، وادي السير، ...).
- اللوحة الثالثة :
حجر الذكريات، وهي قصيدة حبّ وألم في ستّة مقاطع يستعيد فيها امرأة أحبّها، ثم
خسرها فتألّم لفقدها.
- اللوحة الرابعة :
من مفكرة إنسان في القرن العشرين، وهي قصيدة طويلة نسبياً، تتكون من عشر قصائِد
قصيرة، فيها أفق إنساني واسع وتشتمل على عناوين من مثل: اللقيط، الجدب، الفراغ،
دعاء الكروان، الطوفان ...).
- اللوحة الخامسة :
الاغتسال في بحر الدم العربي، وفيها ستّ قصائِد يعود فيها للهم الوطني والعربي ومن
هذه القصائِد : حبيبتي خلف النهر، من المحيط إلى الخليج، مرثية الجنازة رقم ...،
أغنية للوحدة العربية.
وأبرز ما في المجموعة الثانية، ما
يلاحظه القارئ من تحوُّل فنّي وجمالي عند الشاعر، وهو ما اقتضاه الانتقال إلى
التعبير الذاتي الذي يستحلب أشكالاً من خصوصية التعبير، مقابل التعبير العمومي في
المجموعة الأولى. فيبدو أن التجربة الخاصّة في مستوى المعيشة ومستوى التجربة
العاطفية ما أسهمَ في تطوير معاني الشاعر وتسريع تطوره الشعري. وهكذا انضافت إلى
تجربته أبعاد ذاتية تبدو محدودة في العمل الأول، الذي سيطر عليه الهمّ العام
بأسلوب يتّفق مع عموميات شعر المقاومة، والمعاني الأكثر شيوعاً فيه.
وفي التجربة الجديدة نجد مقدرة الشاعر
لافتة في تسريب اليومي والتفاصيلي على نحوٍ متدرِّج إلى جوهر القصيدة، وهو ما
توسّع لاحقاً وغدا إحدى الميزات الأسلوبية لشعر علي فودة عامّة.
وعلى سبيل المثال يجيء المقطع الأول من
قصيدة "شباكك المسدود" على هذا النحو:
"على شباكك
المسدود نقَر عاشق ومضى
يثرثر وحده ليلاً
ويندب حظّه العاثِر
وقد كُنّا سوياً في
فراشك داخل الغرفة
ويرقد بيننا دفء
الفراش وصدرك العامر
ورغوة حبنا الفوار
بالقبلات والأشواق والحمى
وهمسٌ كافرٌ كافرْ
". (ص 7-8)
ففي مثل هذا التعبير نجد مياسم التجربة
واضحة أكثر من المعاني العمومية أو المشتركة، وهو ما سيتحوّل معه الشاعر إلى (شاعر
تجربة)، ينطلق من وعيه الخاص وروحه المختلفة سواء في تناوله للهموم الذاتية
الإنسانية، أو حتّى القضايا الوطنية الشاملة. وفي قصائِد هذا الديوان مساحة واسعة
للحب، بمعناه الصريح والروحي، حيث يمزج (فودة) بين الحسّي والعذري في سياقٍ واحد
متداخل، ولا يميل لأحدهما دون الآخر. ومن اللافت أن المرأة التي يحبّها امرأة
ناضجة أكبر منه سناً بكثير، كما يكشف في بعض قصائِده، وكأنها العاشقة والأم معاً،
كأن فيها صدى لحضن الأم الذي افتقده طفلاً:
"يمين الله كنت
أحبها رغم السنين الأربعين بوجهها المحزون
وكنت أسدّ بالأوهام
قلبي، والهوى المجنون
يمين الله كنت أحبّها
دوماً
يمين الله". (ص
38)
فالمرأة أربعينية وهو ما يزال في مطالع
العشرينات، في صورة حب أمومي، امتزج الوجداني فيه بالحسّي، لكن هذه المرأة غابت
عنه وخذلته، فانتهى الحب إلى شقاء وألم، وهكذا تظهر في قصائِد أخرى في صورة
(المرأة الغادرة)، التي اكتشف أن لها عشاقاً كثيرين، وأنها أقرب إلى صورة
(المومس)، ما دفعه إلى هجرها، وإلى أحاسيس مؤلمة فجّرت بعض قصائِد العشق والحب:
"وحين رأيتُ
منكِ الغدر
بقاع القلب سكيناً
يمزّق في شراييني
ويبحر في حنايا الروح
يسقيها المرارة، ثم يسقيني
بقايا الكأس
كرهت سواد عينيك
اللتين شربت خمرهما
كرهت الثغر والنهدين
والأنفاس
وقلت: ودا ...
وداعاً يا أعزّ
الناس". (ص 17)
وهذا الغدر أو الخذلان، يبدو أمراً
قدرياً كما يعبّر عنه الشاعر، وهو يتأسّس على غدر المرأة وخيانتها في أحد تجلّياته
(لم يتزوّج الشاعر ولم يستقرّ حتّى استشهاده) لكن غياب المرأة أو غدرها يتعزّز
بِما يعبّر عنه الشاعر من إحساسه بالخذلان الشامل، وخصوصاً من الأصدقاء والرفاق
الذين يكشف عن مقدار ألمه نتيجة خذلانهم، وعلي فودة – كما يقول فايز محمود -:
"ارتكز على علاقات الصداقة كمحور حيوي له في الصدارة" (6)،
لكن هذا المحور ظلّ مرهوناً لإحساسه بالرصد، وبقدرية غامضة، يصطدم بها في طموحاته
ورغباته، ففي قصيدته "رواد المقهى" التي يهديها "إلى شلة أعرفها
وتعرفني" يعبّر عن هذا المعنى من الاختلاف مع الأصدقاء الذين ينمّون عليه
ويلوكون لحمه:
"لست من رواد
مقهاهم أنا
فاعتقوني
لا تلوكوا لحمي
الأخضر لا
لا تغوصوا في جراحي
وشجوني
لست منكم أصدقائي
فدعوني
واغفروا لي أصدقائي
اغفروا لي بعض ذنوبي
وجنوني". (ص 64)
فمثل هذه الصورة تعبر عن ألمه من
الأصدقاء الذين كان يعوّل عليهم كثيراً، لكنه يبدو بتأثير من تكوينه النفسي كان
شديد الحساسية، لدرجة الاختلاف معهم لأتفه الأسباب، مع تضخيم السبب ليصبح أمراً
قدرياً هو مرصود له منذ البدء.
وهو في قصيدة أخرى يعنونها بـ
"اللصوص"، ويعني بها الأصدقاء، يقول شيئاً شبيهاً:
"أصدقاء السوء
مرّوا خلف بابي
لم يبالوا بعذابي
أمس مرّوا
سرقوا جيبي وقلبي
وشبابي
ثم راحوا". (ص
54)
ويحسّ أحياناً بنفسه في صورة يوسف:
"فرماني الأخوة في قاع البئر/ غمروني بين زوايا النسيان/ لدغوني لدغـة أفعى/
قاومت فـي التيار ولكن الغدر/ ظـلّ كسيل الزمن الجارف لا يعرف معنى الرحمة". (ص
65)
ومثل هذا الإلحاح على الصداقة والأصدقاء
مؤشر على رغبة الشاعر في التواصل مع الآخرين، خصوصاً مع نمو شخصيته الشابة وسط
إحساس خانق بالوحدة والخذلان، لكنه، أيضاً، بالنظر إلى نفسيته وتكوينها لم يكن
قادراً على مدّ جسور التواصُل، لا لأسباب تتعلق بالآخرين – فقط – كما يذهب في
شعره، إذ يبرئ نفسه ويتهم غيره بالخيانة والخذلان، وإنّما لأنه ذاته كان عاجزاً عن
استيعاب الآخرين، والتواصل معهم، كما هم، لا كما يرغب هو أن يكونوا ... وهذه إحدى
المعضلات المؤثرة في حياته، ويمكن متابعتها في شعره وفي روايته التي خصّص قسماً
منها في هجاء أشخاص ومثقفين كانوا من معارفه وأصدقائه، ومع كل ذلك، فإنه من تلك
الشخصيات التي تتعطش للتواصُل رغم وحدتها، وتخريبها لعلاقاتها، يقول في قصيدة
قصيرة بعنوان "الفراغ":
"لو أنّ بعض
الأصدقاء
تجمّعوا هذا المساء
في غرفتي
لو أنهم تجمّعوا في
هذه المغارة
وقال كل واحد حكاية
ولو سخيفة
لما تكالبْ عليّ
غربتي المخيفة
لمّا رثاني نادل
الخمارة
ولا رثيت الناس في
مدينتي
لو أنهم
تجمّعوا". (ص 81-82)
هكذا يبدو تقديره للصداقة، كنافذة
مناقضة للوحدة وللألم، فهي النافذة المضيئة والمؤلمة في آن، إنّه يطلب الأصدقاء،
لكنه يختلف معهم، ويفقدهم، ثم يبكي غيابهم، ويتألم في وحدته، ويبدو هذا الألم أشبه
بقدر يعيشه الشاعر، ويتغذّى منه في تعبيره الشعري المؤثر، بل إنه يبدو أحياناً كما
لو كان يطلبه (واعياً أو غير واعٍ) كأنّما وصل إلى مرحلة – استعذاب الألم – وهي
حالة لا تبعد عن تركيبة نفسية مضطربة كنفسية الشاعر صاحب المزاج والتكوين المختلف.
وهذا الذي نجده في صورة (الأصدقاء)
يتكرّر على نحو مريب في مشاهد أخرى في العلاقة بالوطن وبالأشياء، وكأنه نمط من صلة
الشاعر بكل ما حوله، ففي "الحب الكبير":
"ولي وطن شئت
لقياه، لكنه ظلّ يسخر
ويسخر مني ويسخر
فناشدته رحمتي ...
صحت بالدمع، بالدم، بالبندقية
صرخت بأشواق قلبي/
فيم الأسية
صرخت/ قتلتك يا وطني
ذات يومٍ
حنانيك يا وطني ...
حنانيك ... خذني ولو
لحظة بين تلك الرعية
ودعني أموت". (ص
92)
فهذه هي لعبة الاتصال والانفصال، اللعبة
المميتة التي عذبت الشاعر وشكلت مرتكزاً لبناء علاقاته السريعة المتشظّية مع الناس
والعالم والأشياء، لكنها في الوقت نفسه تبدو المنبع الثرّ للشعرية، فالاختلال هو
الذي ينتج القصيدة، وهي – في حالة علي فودة – قصيدة مكتنزة بهمّها الإنساني/
وبأوجاعها النبيلة وبإشراقاتها التي لا يطفئها الألم.
((
عواء الذئب ))
في "عواء الذئب" يتعزّز
العنصر اليومي، وتغدو التفاصيل وهوامش الحياة اليومية، مادّة لها مساحة أوسع في
القصيدة، كما يميل شكل القصيدة إلى مزيد من التحرُّر، وإذا تذكّرنا أن هذا الديوان
فاتحة المرحلة البيروتية وبعد قضاء سنة بين بغداد والكويت، فيمكن أن نستنتج توجّه
تجربة الشاعر إلى مزيد من التعقُّد والتطوُّر، ومع أنّ هناك عناصر ظلّت محوريّة في
تجربته، فإنّ تناوله لتلك بدا مختلفاً، ومرتبطاً أشدّ ارتباط بشخصيته الفردية، وهكذا
لم يعد التعبير عن الوطن تعبيراً شمولياً، وإنّما أصبح أكثر قرباً من الخصوصية
الذاتية النابعة من تجربة الشاعر نفسه، ومن تطوُّر تجربته الحياتية والثقافية،
وتطوُّر أدواته الإبداعية في المستوى اللغوي والتقني البحت.
وقد ظلّ ميله للقصيدة ذات المقاطع أو
المشاهِد واضحاً في كل مراحل تجربته، وكلأن كل مقطع أشبه بموجة وجدانية قصيرة، أو
زفرة متألّمة، ولذلك نادراً ما يكتب قصيدة مطوّلة على نفس واحد، ليس لأنه قصير
النفس في الشعر، وإنّما لأن تجربته النفسية وتكوينه الشخصي أقرب إلى التقلُّب
والتحسُّر الذي يتقسّم في هيئة موجات متتابعة لا تطول زمناً، ولا تطول في صورتها
التعبيرية.
فقصيدة: "حبل المشنقة"،
مثلاً، مقسّمة إلى مقاطِع مرقّمة من (1-11)، والمشاهِد تتقارَب في جوّها النفسي،
وفي الجملة الافتتاحية التي تبدو مفتاحاً مشتركاً "ذات يوم" حيث تتكرر
هذه الفاتحة في المقاطع جميعها، وهي – كما نلاحظ – جملة زمنية تشير إلى استعادة
زمن فات، ثم النظر في تقلُّب الزمن وتأمُّل تغيّره وانقلابه، وفيها ملامح لطلب
الحرية وللتعبير عن الفقر والغربة والافتراق عن الأهل، والوحدة القاسية، وغير ذلك
من معانٍ عبّر عنها الشاعر بصورٍ شتّى في تجربته.
ويبدو في هذه القصيدة تطوّر أدوات
الشاعر وانحيازه إلى التكرار الأسلوبي الذي يناسب القصائِد القِصار، حيث يشدّد على
الدلالة المرادة، ويشعر بالنهائية (انتهاء القصيدة) من مثل:
"ذات يوم
قلت: فنتحاور ببعض
القصائِد
لكنهم أطلقوا النار
قلت: قفوا لحظة
أطلقوا النار
قلت ... لكنهم أمعنوا
وحدها البندقية صارت
حواراً هنا
فاحذري يا غريبة ...
آه احذري!". (ص 24)
فهنا نلاحظ الروح السردية التي ظهرت في
حدود ضيّقة سابقاً، لكنها اتّسعت مع دخول الهامشي واليومي، مثلما نلاحظ الاعتماد
على التكرار الدال، تكرار ألفاظ تكرار بعض الجمل، وسيغدو هذا النمط من التكرار
الأسلوبي واحداً من السمات البارزة في قصائد علي فودة، وسيظلّ حاضراً في دواوينه
التالية. ومن الملاحَظ أيضاً، أن الشاعر يتخلّى بالتدريج عن ذلك الانضباط الإيقاعي
الذي وسم دواوينه السابقة، فيغفل التقنية الصارمة، لصالح أنماط إيقاعية أخرى، ومن
ضمنها التكرار الذي له حضوره الصوتي مثلما يحمل غناه الدلالي.
ويعود إلى ما أشرنا إليه من محور
الأصدقاء وحضورهم في شعره، لكنهم هنا يغارون من شهرته، ولذلك يضايقونه ويحاصرونه:
"ذات يوم
كان لي شهرة غاضبة
غار منها صحابي
الكسالى
وضعوني بعنق الزجاجة
عنق الزجاجات
رشّوا فمي بالرصاص
فسرتُ ولم ألتفت
نحوهم يا غريبة
سرتُ ولم
ألتفت". (ص 33)
ففي هذا المقطع نجد معنىً متكرراً،
متعلقاً بخيانة الأصدقاء، لكنه عبّر عنه بهذا الأسلوب السردي المشبع بالحياة
اليومية، والمتخلي عن التقفية في المستوى الإيقاعي، وكأنه يقترب من النثر في بساطة
التعبير وفي الخاتمة التي يكرّر فيها الجملة "سرت ولم ألتفت"، ويمكن أن
نلاحظ الصورة القاسية "رشوا فمي بالرصاص" وهي صورة بيروتية، تتعالق مع
صور الطلقات ومفردات الحرب مما شاع في هذا الديوان وما تلاه.
وفي الديوان التقاطات ذكية وشعرية في آن
لأحوال بيروت، واضطراباتها إبّان الحرب الأهلية الأولى تتسلل بصورة مواربة،
وأحياناً على نحو مباشر:
"ذات يوم
عدتُ للفندق العربي
ببيروت
وكان لبيروت قنّاصتها
جثّة في الطريق وجدت
ومستنقعاً من نواح
لم تكن غير تلميذة
وادعة
يا غريبة ... هل
تذكرين الفجيعة
تلميذة وادعة". (ص
34)
ولن تغدو هناك مسافة بين الذاتي
والموضوعي، وإنّما ستبدو الموضوعات (الخارجية) في مرآة الذات في صورة كسر وشظايا،
بعد أن تتبدد وتتمازج من منظور الشاعر، وسيظلّ التركيز العاطفي مما يميّز طريقة
الشاعر، فهو يفجّر الصور والمواقف ولا يبردها أو يقلل درجة الانفعال بها، وهذا
يعود – ربّما – إلى الحساسية العالية التي يجابه بها الأشياء، ويكتبها بالدرجة
ذاتها من التأزُّم والتفجُّر، فالأشياء والموضوعات تغدو جزءاً من أزمة الشاعر نفسه
التي تصل حداً من العنف والغضب ويدفعه للصراخ:
"هذا البركان
الهادر في صدري ... ماذا يسكته هذا البركان؟
ماذا يسكته ...
غير رصاصة حبٍ ...
أو حقدٍ
في كلّ زمانٍ ... في
كلّ مكان". (ص 42)
كأن الشاعر الغاضِب يتنبأ بالمصير، ويرى
نهاية بركانه واشتعاله، كأنه يرى الرصاصة أو الشظية التي أسكتت البركان بعد سنوات
قلائِل، وهو الثائِر الغريب الذي لم يستطع التوافق مع الثوار:
"فلتذكروا يا
أصدقاء
فلتذكروا حين تمرّ
الذكريات
بأن ثائراً
عاش غريباً، وغريباً
مات
تذكريه يا فلسطين
...
ولتذكروا يا أصدقاء
بأنه كان يحبّكم
يحبّكم يحبّكم حتّى
البكاء
ثمّ قضى
فلتشهد الوردة
والطلقة والسيدة العذراء
والدم في الحقول/
والنجم في السماء". (ص 44)
كل هذا يرد في إطار من نبوءة الشاعر،
ورؤيته لمصيره، كأنه يقرأ في كتاب. أي أن فكرة الموت الشخصي قد بدأت تتضح، وبدأ
يراها على هذا النحو المحزن، ومضى في طريقها حتّى آخرها، ربّما دون أن يحقق الكثير
مما كان يطمح إليه ويرغب فيه، وربّما صادرت هذه الفكرة كثيراً مما كان يمكن أن
يُكتب أو يُعاش أو يُتأمَّل، ولعلّ ما ذهب إليه صديق الشاعر (الكاتب فايز محمود)
في حديثه عن (الشاعر المرصود) يبدو ممكناً ومعقولاً إلى حدّ كبير، فـ (علي فودة)
ظلّ مطارداً بفكرة أنه إنسان مرصود له قدره القادم الثابت: "مرصود/ مرصود للشعر
وللغربة والفقر/ مرصود للقهر/ مرصود لأغاني الوطن الغجرية وأغاني البحر/ مرصود
لنوائِب الدهر/ مرصود ... مرصود ... مرصود". وكما يقول فايز محمود فإنَّ
(علي) "في حالته الشعرية، ظلّ أسيراً لكونه مرصوداً كشاعر، ولم يلتفت بِما
فيه الكفاية لترصّد رصده هذا ... قدرية تماماً. الحالات المرصودة في حياة علي
فودة، وضبابها الاجتماعي والقومي وتركيبها الثقافي، ونمطها الإبداعي طيبة متناهية
أبداً، وعشق للثقافة بهيولها اللا تاريخي، وحلم بمستقبل سعيد آت". (7)
ومن البؤر الجديدة، بؤرة الصعلكة،
امتداداً للإحساس بالوحدة والانفراد والفقر، وفي مقطع من قصيدة "بلال
الحبشي" يقول:
"أُفردتُ إفراد
البعير ما راجعني أحد
أُفردتُ إفراد البعير
ما كلّمني أحد
أُفردتُ إفراد البعير
ما صافحني أحد
ها أنذا تلفحني
الرمضاء
ها أنذا يحفر سوطكم
على جلدي أخاديد من البكاء
ها أنذا أشتاق لو
جرعة ماء
لكنّي ألتفّ بالصمت،
أعاشر الجَلَد
أحدْ ...
أحدْ ...
أحدْ ...". (
ص 59)
فهو هنا يتّخذ من "بلال
الحبشي" في مرحلة تعذيبه من أجل مبدئه قناعاً شعرياً، ويدمجه بطرفة بن العبد،
الشاعر الجاهلي الذي تعرّض للطرد وللانفراد، وهو يستعيد تعبير طرفة "أُفردتُ
إفراد البعير" ويجعله على لسان بلال كشخصية شعريّة، يعبّر الشاعر من خلالها
عن مصابه الشخصي، وتتعزّز هذه الدلالات بما ورد في القصيدة نفسها من معاني الغربة
والطرد وفقد الحرية، لكنه في كل حال يعلن تمرّده، وقبوله بهذا المصير الذي يرى
ذاته مرصودة له منذ البدء. وهو يكرر في غير قصيدة إنه صعب الترويض "يروّضني
صغار لست أذكر أنهم وردوا بذاكرة الزنابق والبنادق" (ص
70)، كما يكرّر المعنى في قصيدة
"الفهد" التي تبدأ بمقطع غنائي شفاف، (غنّاه مارسيل خليفة):
"دائِم الخضرة
يا قلبي
وإن بان بعيني الأسى
دائِم الثورة يا قلبي
وإن صارت صفحاتي مسا
ما تروّضت، ولم أعرف
سوى الرفض، ولكن اذكروا
أنني الخارج توّاً من
زنازين الدموع". (ص 82)
وفي القصيدة هذه الروح المتمرّدة
المتفائلة، التي تحمله على تكرار إعلان الحب للوطن:
" حبّاً
وطواعية/ إنّي اخترتك يا وطني
سراً وعلانية/ إني
اخترتك يا وطني
فليتنكّر لي زمني
ما دمت ستذكرني
يا وطني الرائِع ...
يا وطني!". (ص 86)
وهذا الإيمان بالوطن والارتباط به، على
هذا النحو من الصدق والصراحة، ظلّ ثابتاً غير قابل للرافض أو التأرجح، بل إنّه ظلّ
صمّام أمان يحمي الروح المرصودة للتعب وللغربة.
ومن المميّز في هذا الديوان، مجموعة
القصائِد المعنونة بِـ "مطلوب رأسي" وفيها سبع عشرة قصيدة أو مشهداً،
يتعلّق كلّ منها بشخصية من الشخصيات التي أعجب بها الشاعر، من الشهداء أو
المناضلين (أبو علي إياد، أبو يوسف النجار، باجس أبو عطوان، جيفارا غزة، غسّان
كنفاني، كمال جنبلاط، دلال المغربي، وغيرهم)، وفيها تتبدّى مقدرة الشاعر على
استلهام روح الشخصية وجوهرها النضالي المتألِّق، وهي في جملتها تؤكِّد معاني
المقاومة، والتميُّز الفردي الذي مال إليه (علي فودة) ومجّده في أحوال وصور كثيرة،
كما هو الحال في صور الشهداء والمناضلين ممن رحلوا أو واجهوا مصيرهم بثبات وتجلُّد
ورضى ومن قصيدته "جيفارا غزّة" وهو لقبٌ عُرِف به أحد المناضلين الذين
أقضّوا مضاجع المحتل:
" غزة في القلب/
وقلبك صلب/ حبك صعب يا جيفارا
لكن لا وردة إلاّ
وردة غزة/ لا شهوة إلاّ شهوة غزة
لا ميتة إلاّ ميتة
غزّة/ فليكن الشارع مقبرة/ والبيارة
مقبرة للدخلاء بغزة/
إني أرفضهم ذكراً ذكراً/ أنثى أنثى/
طفلاً طفلاً، إني
أرفضهم مضموناً أو شكلاً/ من أجل عيونك غزة
يا وجعي المحبوب
...
ودفعت الثمن المطلوب
... يا جيفارا". (ص 97)
فعلى هذا النحو من الوضوح تأتي قصائد
الشاعر في ابتهاجه بالمقاومة المضيئة متخلياً عن تلك الرؤى السوداء التي ملأت
قصائد أخرى، تداخل فيها تعبيره عن المعاناة الشخصية، مع المعاناة الوطنية العامة
ومع أحوال بيروت واضطراباتها.
((
الغجري ))
"الغجري" (8) هو
الديوان قبل الأخير للشاعر، وقد قسَّمه الشاعر إلى ثلاثة أقسام/ لوحات هي:
- اللوحة الأولى:
الغجري. وتشتمل على ثماني قصائِد هي: الملعون، النوم في الشوارع، العش، السيد
متشرد، الغيوم، الدفلى، دم شاعر، اللوز المرّ، ومن عناوينها نستطيع أن نحدس
بعوالمها ومناخاتها من ناحية الارتباط بالتمرد والصعلكة، وبالاختلاف الذي نضج في
روح الشاعر، وصار ميسماً للشخصية وللشعر الذي تنتجه.
- اللوحة الثانية:
السيدة ثلج ... السيد نار، وفيها خمس قصائِد هي: هجرة السنون، الأرض البور، ثلوج
الصيف، رياح الخماسين، الأرانب البرية ... وبعض هذه القصائِد – أو أكثرها – مما
كتب في عمّان (قبل مرحلة بيروت) لكن مصيرها أن تنشر في هذا الديوان، ربّما لإدراك
الشاعر أنها تنسجم مع قصائِده الجديدة، ومن قصائِد عمّان ما هو مكتوب العام 1973
وهي: الأرض البور، الأرانب البرية، رياح الخماسين. ومع أن الشاعر لم يؤرّخ هذه
القصائِد، إلاّ أن مخطوطه الذي بين يدي يشتمل على هذه القصائِد، وفي نهاية كل منها
تاريخ كتابتها.
- اللوحة الثالثة: وتشتمل
على قصيدة معنونة بـِ "غزلان الصحراء" وقد أثبت الشاعر في نهايتها
زمانها ومكانها ( عمّان 1975).
وقد افتتح (علي فودة) ديوانه بمقتبسين
في صورة عتبتين دالتين، الأولى من (لوركا) في مقولته الشهيرة "وأسفاه لم يعد
هناك غجر/ يصعدون إلى الجبال منفردين" والثانية من (هوارد فاست) وتقول:
"إنهم يفكرون في
إسكاتنا/ مع أن كلّ جريمتنا كلمات
غنينا بها الحياة/
والسلم والأمل
والأشياء التي يعتزّ
بها الناس".
ومثل هذه المقتبسات ليست جديدة على
تجربة الشاعر، فقد ظهرت في "عواء الذئب" من قبل، كما استمرّت من بعد في
"منشورات سرية للعشب"، ويمكن اعتماداً عليها تتبّع بعض المصادر الثقافية
للشاعر، وإن يكن هذا التتبع ليس مأموناً تماماً، إذ تحسّ – أحياناً – أن الشاعر لم
يطّلع على أكثر من المقتبس، أو اطّلع على شيء قليل من تلك التجارب التي يقتطف
منها.
وفي القصائِد الجديدة المكتوبة بعد
مرحلة عمّان (وهي المعنونة بالغجري – اللوحة الأولى) أنفاس جديدة متجددة وفيها ما
يشبه القطع من المعاني العامّة، لصالح تطوير رؤية خاصّة، للشاعر المتفرد المنفصل
عن تجارب الآخرين، أي أن هذه القصائِد أدخل في الخصوصية الشعرية وفي التعبير
الخاص، وفي السعي للتجديد والاختلاف رؤية وتشكيلاً، كما أن لغة الشاعر تكتسب نوعاً
من الطزاجة والجدّة، مع محافظتها على توتّرها وشحناتها الوجدانية والتأثيرية مما
تبدّى مبكراً في تجربة فودة. كما أن فيها عناية بالإيقاع من ناحية تنويعه،
والمقدرة على توجيهه والتصرف به دون مشكلات ودون تلك الطرق النمطية التي رسّختها
منذ الستينات قصيدة التفعيلة.
ويمكن أن نتأمّل قصيدة
"الملعون" في عنوانها المتمرّد ثم في المقتبس الافتتاحي من (ماياكوفسكي)
الشاعر الروسي المنتحر الذي سبق أن ذكره في قصيدة من "عواء الذئب"
عنوانها: "ما لم يقله ماياكوفسكي للوردة"، ويقول هذا المقتبس:
"دوماً وإلى الأبد ... لا أريد أن أشرب غير سمّ ٍ واحد، هو سمّ الشعر".
وفي هذا الاقتباس ما يدلل على أن الشعر لم يعد مجرّد سبيل للتعبير عن هموم أخرى
شخصية أو وطنية، وإنّما أصبح قضية خاصة ذات تفرُّد خاص عند الشاعر، صار له
خصوصيته، وروحه المتفردة، خارج وظائفه المألوفة، وخارج غاياته التعبيرية.
وتبنى هذه القصيدة في مقاطع متتابعة
يفصل بينها بدائرة سوداء واضحة. وعددها أجد عشر مقطعاً، تتبدى فيها عناية الشاعر
بالفضاء النصّي، أو جغرافيا النص، من ناحية توزيع السطور، ومساحات الفراغ،
واستخدام بعض صور الترقيم، وغير ذلك مما يتعلق بتلقّي النص بصرياً.
ومن ناحية الصياغة، تتمتع القصيدة في
سائر مقاطعها بنوع من التدفُّق اللغوي الذي يستخدم لغةً أميل إلى البساطة، لكنها
تتمتَّع بجماليات ثرّة، مصدرها المعاني المؤثرة الجديد، وطريقة توظيف الشاعر
للمعجم البسيط، بحيث يبدو في أفضل أحواله، وفيها، أيضاً، تخلّص واضح من أدوات
الربط التي كانت تكثر في قصائده الأولى، لكنه هنا يستخدمها بالحدّ الأدنى، مما
يغني التدفُّق، ويزيد من سرعة الجملة وانسيابها، مثلما يمنحها شيئاً من الإيحاء
المكثَّف نتيجة البعد عن الإيضاحات غير الضرورية كما مال الشاعر إلى نوع من
التناوب الإيقاعي أنتجه توزيع التفعيلة من مقطع إلى آخر، من (فاعلاتن -ب--) إلى
(مستفعلن --ب-) إلى (فعلن ب ب-)، وهي طريقة سيتبعها في فصائد لاحقة، ويضفي هذا
التنويع – الذي يتبع نمطاً من التنويع الدلالي – حركة وحيوية على القصيدة بأسرها،
مثلما يساعد في تتبع خيوطها وتقوم القصيدة دلالياً على فكرة استحضار الشيطان أو
الحوار معه (وهي فكرة مسبوقة في الأدب) لكن الشاعر يتصرف بها تصرفاً حسناً، نتيجة
وعيه بتجربته الخاصة، وتمكّنه من تحويل معارفه وثقافته إلى تكوين خاص به، ويبدو
الانزياح الدلالي واضحاً حيث لا يتعامل مع الشيطان بوصفه رمزاً للشرّ الخالص،
وإنّما يحنو كل منهما على الآخر، وفي بداية الأمر يُخاطِب الشيطان إيّاه من نفسه،
كأنه ملعون أكثر منه:
"لا تقترب أكثر
... مشبوه دمي
حاذر من الأنفاس
ملعون أنا ... ينبذني
الناس
فحاذر!". (ص
9)
ويعود الشيطان صورةً ورمزاً في مقاطع
أخرى تعبّر عن نوع من التضامن والتداخل الدالّ، وتشير إلى رؤية مختلفة لفكرة
الشيطنة، تنتهي برفقة أليفة، يعبّر الشاعر عنها تعبيراً طريفاً، كأن الشيطان صديق
يرافقه ويسير معه أينما سار:
"نَمشي في
الشارع ... نضحك أو نتسوّل
نبكي أو نتشاجر
نكتب شعراً أخضر
نسبح في النهر
ننام على الطرقات
نجرّب حوانيت المدن
نثرثر بين الأعشاب
نداعب أطفال العالم
أنت أنا
وأنا أنت
فمن فينا الشيطان
من الإنسان
أنا أنت
وأنت أنا
والاثنان طريدان
من الجنّة". (ص
17-18)
ونلاحظ أنّ إحساس الشاعر بمعناه الجديد
دفعه لتوزيع سطوره الشعرية ضمن فضاء خاص من الكلمات، وربّما التمس الشاعر فكرة
(شيطان الشعر) وخبأها في نفسه كمرجعية لهذا التداخل، إضافة إلى إحساسه القديم
بالرصد والقدرية، وأنه موعود بالشر دائما وبالاغتراب والحرمان مهما يفعل أو يحاول
ولعلّه جدّ في بعض الأعمال الأدبية كعمل هنري ميلر "شيطان في الجنة" ما
يؤيد هذه الرؤية، وكذا ما جاء في شعر أمل دنقل من رؤية خاصة تمجّد الشيطان كرمز
للتمرّد والحرية "المجد للشيطان/ من قال: لا، في وجه من قالوا: نعم".
وفي المقاطع الأخرى من القصيدة اعتماداً
على الذاكرة، حيث يستعيد أصحابه، يتذكّر المرأة التي أحبَّها، مثلما يستعيد ذكريات
وصوراً من عمّان، بعدما بَعُدَ العهد بها، وصارَت لحظاتها آيلة للتذكر والحنين،
وهكذا يتذكّر معاركه مع أصحابه، ورغبته في أولئك الصحب القدامى:
"ليس سراً يا
أحبائي القدامى
أنني أطلبكم في كل آن
ليس سراً أنني أشتاق
للمقهى
وللنرد
وكرسي الخيزران
...
إنّما فات الأوان
بيننا الآن نزال ...
بيننا ما بيننا
بيننا الشعر الذي
ينصفنا/ أجمعين
بيننا الغربة والسكين
والجرح الدفين
فاذكروا ... أن لي
قلباً من الورد ... ولكن ... لا يلين!". (ص
12-13)
وهذه الصورة من تلك الصور النمطية التي
وقف عندها الشاعر طويلاً – كما بيّنا من قبل – وستظلّ صورة الأصدقاء بين الاتّصال
والانفصال إحدى الثيمات المغذية لهذه التجربة المتألّمة. وإضافة إلى الشيطان
والأصدقاء يتذكّر امرأة أحبّها في عمّان، ويستعيدها في موقف يومي مشترك، يتمتّع
بالبساطة والتأثير، مثلما تتبدّى فيه لغة جديدة للحب الرصيفي:
"تذكرين؟
كان شرطي المرور/
يقرأ الدهشة في عينيك
والعشق ونهر الياسمين
تذكرين
كانت الشهرة يا (...)
في (الدبلماتْ)
وصديق وصديقة
يمطرانا بالهوى
والذكريات". (ص 15-16)
و (الدبلماتْ) اسم مقهى قديم في عمّان،
كان ملتقى للعشاق والأصدقاء، ونلاحظ جرأة الشاعر في استخدام اللغة اليومية،
والمواقف المعيشة دون حرج، ودون تخييل للغة الحب، كما هو الشأن في مألوف الشعر
العربي، ولذلك يحضر المقهى وشرطي المرور والسهرة والأصدقاء، وهي عوالم يومية
أبرزها الشاعر في العديد من قصائده الأخرى، وأغناها بكثير من مفردات الشوارع
والأرصفة ودبيب الحياة السائرة.
وبقية القصائِد المعنونة بـِ
"الغجري" قصائِد تشرُّد وصعلكة وتمرُّد، فالنوم في الشوارع قصيدة ذات
صلة بالرصيف، وفيها تمجيد للشارع "للشارع أحزان كأحزانك/ للشارع وجه رائع/
لكنهم داسوه ظهراً مثلما داسوك" (ص
19)، وهي تجربة مع النوم على الرصيف،
كتجربة صعلكة وتشرُّد، تقاطع مع الجوع ومع دبيب العجلات، والرصيف هنا ليس مكاناً
سلبياً، وإنّما هو مكان أليف رغم الجوع والوحدة، وفي أحد مقاطع القصيدة يتبادل
الشاعر الدور مع الإسفلت "أنت إسفلتْ/ وهذا الشارع الوادع من لحم ودم" (ص
20)، وكأن الشاعر يحنو على الرصيف، ويرتبط
به على نحو خاصّ مختلف، ولا يراه مكاناً للعبور والتجاوز، وإنّما هو مكان الإقامة
للشاعر الحرّ الغريب.
وفي قصيدة "الغيوم" مقطع شعري
– سردي مضيء، في تعبيره الكابوسي عن رعب الوحدة ومبلغ حدّتها، وتروي قصة كابوسية
عن ضيف أطلّ من باب الشاعر، لكنه بمجرّد أن رأى عيني الشاعر، مضى إلى حال سبيله
(لم يتحقق الاتصال)، فمضى يركض خلفه في صورة مؤثرة غرائبية (سنكتب القصيدة بطريقة
نثرية اختصاراً للمساحة):
"سأذكر أن ضيفاً ما أطل برأسه
يوماً/ وكان الباب مشقوقاً (أخيراً جاءني ضيف)/ رأى عيني تبتسمان، أجفل/ فاستدار
وما تكلم/ ما الذي فعلته عيناي المؤرقتان؟/ كان سيدخل الضيف العزيز، وربّما كنا
تحدثنا عن الأعشاب/ شهور قد مضت ما زارني أحد من الأصحاب/ ما انهمر الهوى بالباب/
كيف مضى/ سأتبعه/ وقعت أجرجر الخطوات/ صار يركض/ صرت أركض/ صار يلهث/ صرت ألهث/
صار يبكي/ صرت أ ... ب ... ك ... ي .../ خرّ مغشياً عليه ... أفقت/ كان الضيف
منتحراً على بابي/ فنحت عليه/ ثمّ غسلته كفّنته، دفنته ما بين أحبابي". (ص
34-35)
فهذه صورة سردية – كابوسية تروي مشهداً
لكابوس أنتجته الوحدة، فليس ثمّة اتّصال مع الآخرين، وكل صلات الشاعر بغيره صلات
ميتة/ مقطوعة كصورة هذا الضيف الذي رغب في دخوله ليدور الحديث بينهما عن (الأعشاب)
أي عن اخضرار الحياة المناقضة للوحدة المميتة لكن النهاية الغرائبية للكابوس تشير
إلى موت الصداقة كما هو الحال في الصور الواعية غير الكابوسية مما أشرنا إليه من
غير مرة.
واللافت في هذه القصيدة، إضافة إلى
الكابوسية والسردية، تمكُّن الشاعر من التعبير الشعري المتدفّق من غير فواصل تقطع
الحركة، أو تثبط الروح السردية المتسارعة، إضافة إلى تنويع التعبير بين الحركة
الفعلية/ السردية، والأسئلة المثيرة للحيوية وللتشويق، ثم تقطيع الكلمات، ورسمها
بطريقة مفككة، والإفادة من الفراغ لضمان تلقّي القصيدة على نحو مناسب مع دلالاتها.
واللوحة الثانية المعنونة بـِ
"السيدة ثلج... السيد نار" تعرض لإخفاق الحب وللمرأة الراحلة/ الباردة،
والمرأة دائِماً راحلة أو غائبة في شعر (فودة) وهي تستحضر في غيابها عبر فعل
التذكر، وتظلّ الروح السردية حاضرة في هذه القصائِد، فضلاً عن التعبير العاطفي
باستخدام التفاصيل اليومية/ الواقعية ما يكسر التعبير الرومانسي الذي يحضر في
دواوين وقصائِد سابقة، وتبدو بلاغة اليومي واضحة في قصيدة: "رياح
الخماسين" وهي مكتوبة العام 1973، ومعنى ذلك أنّ للشاعر قصائِد مختلفة
مبكراً، لكن يبدو أن تأخير نشرها له علاقة بتفكير الشاعر في ردود فعل الآخرين، من
ناحية المزاج الشعري الرائِج آنذاك، ومن شواهد اليومي الكثيرة السطور التالية:
"سوياً لذّة
الإفلاس كانت، والتسكُّع حول أرصفة الشوارع
والمرايا والقصور
وضجّة العربات
وكنّا نعبر الساحات/
كنّا نزرع الفوضى، نخربش فوق جدران المنازل
نشرب
"الكولا"/ نثرثر في المقاهي/ ننهب الطرقات
وكنا في ظلام السينما
نتبادل القبلات". (ص 69-70)
وفي "الأرانب البرّية" يحضر
المناخ نفسه أو ما هو قريب منه، إذ يعرض لتسميم جرو الحارة (حتّى لا ينبح عليه أو
عليها) ثم لصاحبه الذي طرق الباب في حضور صاحبته، وظلّ يصرّ على الدخول، وتسيطر
الروح السردية على هذه المقاطع، مع الحوارات المفترضة بين الطارق والمطروق عليه
الذي فوجئ بالصديق/ الضيف في غير وقته:
"خطوات آتية عبر
ممر الغرفة ... من؟
صاحب غرفتي الثرثار
- تك ... تك ... افتح
- من! موسى؟ اذهب يا
موسى ... لا وقت الآن
لأحاديثك ... لا وقت
لأيامك في النرويج وفي النمسا
لا وقت لما حدث
لصاحبنا فوق الشطآن
لا وقت لك الآن
- تك ... افتح ...
إني أعرف صاحبتك!". (ص 76)
وتتواصل القصيدة بهذه اللغة اليومية
التي لم يتعد الشعر عليها، حتّى يصل الشاعر إلى النهاية، لننتبه أنه يتذكّر – أي
يستعيد حدثاً ماضياً، وهو أمرٌ ملاحَظ في سائِر قصائد الحب، إذ لا يتحدث عن المرأة
حاضرة، وإنّما يختار زمن غيابها، وغياب موسى (الصديق):
"كل صباح
أتذكرها، أتذكر موسى
أين هما الآن
ويهلّ الدمع، تصيح
بقلبي ذكرى الاثنين
فتنهمر
الأحزان". (ص 77)
والقصيدة الثالثة أو اللوحة الثالثة
معنونة بـ "غزلان الصحراء" ومبنية في مقاطع متتابعة وفق ما ألفناه في
قصائِد الشاعر، لكنه هنا يستخدم الأرقام اللاتينية في تقسيم المقاطع، وفيها يختلط
الذاتي بالموضوعي، حيث هموم الغربة والوطن والجوع، وحيث ذكرى الأصدقاء، وحضور
العمال الفقراء، وغير ذلك مما يشكل ثيمات متكررة عند الشاعر. والقصيدة من مرحلة
عمّان حيث أرضها في (عمّان 1975)، وتنتهي نهاية متفائلة رغم ارتفاع نبرة الألم
والحزن من مقطع إلى آخر:
"وتشبّ النار،
فأهتف باسم المقهورين
بكل الأوطان
باسم الإنسان –
الإنسان
المجد لنا نحن
المقهورين
المجد لنا في كل زمان
ومكان".
أي أن فيها أنفاس المراحل المتفائلة
التي تعوّل على الكادحين والمقهورين، وعلى الزمن الثوري القادم، مثلما تخبئ غربة
الشاعر وقدره الذي ظلّ يعلن أنه يترصّده ويعد له الكمائِن.
((
منشورات سرّية للعشب ))
وهذا هو الديوان الأخير للشاعر، صدر في
عام رحيله نفسه، لكن ذلك لا يعني أنه يشتمل على آخر ما كتبه (علي فودة)، فوق إشارة
ختامية يوضّح الشاعر تاريخ كتابة القصائِد، ونجد ثلاث قصائِد كتبت في بيروت بين
عامي (78-79) وهي : "حديقة الحيوان، فرس البحر، مالك الحزين"، وأربع
قصائِد في مرحلة بغداد، هي: "النهري، خفر السواحل، الماء ... الماء، صيف
للنار ... صيف للدخان"، أما بقية القصائِد فمن حصاد الحقبة العمّانية بين
عامي (73-75) وعددها تسع قصائِد، أي أنها تشكل المساحة الأوسع في الديوان، وهذا ما
يدفع القارئ إلى التحرّز من اعتباره المرحلة الأخيرة في نتاج الشاعر. ومع هذا
الانتباه فإننا نجد تجربة تكاد تشمل الديوان كلّه، ربّما تسبب فيها حسن الاختيار،
وهو ما لاحظناه في دواوين سابقة، عمد فيها الشاعر إلى ما هو شبيه بعملنا هنا، فهو
لا ينشر في العمل الواحد قصائد المرحلة أو الحقبة الواحدة، وإنّما يختار من مراحل
مختلفة ما يرى انسجامه واتّصاله من ناحية موضوعية وتعبيرية.
وفي القصائِد البيروتية الثلاث نلاحظ
تمركُزها حول محور واحد (حديقة الحيوان، فرس البحر، مالك الحزين) ويتمثّل هذا
المحور في سعي الشاعر للإفادة من الحقل الحيواني في المستوى الفنّي، والدلالي،
ربّما بحثاً عن سبيل جديد في القول، وهو ما يبعد به عن المباشرة أو التصريح مما
ظهر في قصائِد أولى ركّزت على المعنى أكثر من المبنى. ومع أن اللجوء للترميز
باستخدام قصص الحيوان ورموزه من الوجهات الفنية المسبوقة، فإن اللجوء إليها مجدداً
يوفّر للشاعر نوافذ جديدة ويفته له مسارب متنوعة تضيف إلى ما ظهر في تجربته من
أساليب وتقنيات.
والقصائِد الأخرى في الديوان تنتمي إمّا
إلى الحقل نفسه (الجواد العاشق، الفرس الحبلى) أو إلى الحقل البرّي والطبيعي (من
نبات أو ماء ...) مثل: الطحالب، النهري، الماء ... الماء، زهرة اللوتس، عرانيس
الذرة، الصبّار ...، وكأن هذه المناخات والعناوين المستقاة من البراري والطبيعة هي
ما يسوّغ جمعها في عمل شعري واحد.
- وفي قصيدته المركزية "حديقة
الحيوان" نجد محاولة ترميزية ربّما استمدّ فكرتها من الرواية الشهيرة لجورج
أورويل (Animal Farm) أي بالعنوان نفسه، وهي رواية في نقد الشيوعية بأسلوب رمزي وعبر
رموز حيوانية يمثّل كل منها شخصية سياسية شيوعية أو غير شيوعية. ويبدأ (علي)
حديقته بمقطع غريب، يجعله خاتمة للقصيدة، في هيئة موجة تنتهي بما تبدأ به، ومثل
هذه الطريقة في الابتداء والختام مما شاع في شعر التفعيلة، فهي أحد الأنماط
الدالّة، التي مال إليها علي فودة في بعض قصائِده، وهذا المقطع الافتتاحي/ الختامي
هو:
" لا تنادوني
إذا (أبريل) عاد
ارتعوا في الموز
والأزهار
غطّوا بالأسى كل
البلاد
نصّبوا الدب إلهاً
وامنحوا حسناءكم للكركدن
ودعوني في دولتي
تلك التي أسميتها
"لن" ...". (ص 5)
فهذا التمرُّد – الذي طبع تجربة الشاعر –
يصل إلى أقصاه، ويحمل الشاعر على هذا الانفصال، واللجوء إلى دولة تسمى (لن)، وهي
حتماً دولة متخيلة تحمل معاني الرفض المطلق عبر دلالة (لن) التأبيدية، التي لا
يتغير الفعل معها أو في ظلّها، هكذا يبدو في طرف قصي وكل الآخرين في طرف آخر، إنه
ليس معهم ولن يكون ... فموقفه رفض نهائي وحاسِم، يختلف عن مواقف التردد بين الذات
والجماعة، بين التمرد واستحقاقات الجماعة.
وفي المقاطع أخرى يعرض لانكسار الوعل
المرتبط بالسمو والارتفاع، مما يعبر عن الهزيمة وانقلاب الموازين، فالوعل ابن
الجبال والأماكن شديدة الارتفاع، يهبط إلى الكائنات الأرضية/ الترابية، في صورة
تحول من الكرامة والعزة إلى المهانة والمذلة. وحسناً فعل الشاعر باللجوء إلى هذه
الصورة الرمزية، فقد هيأ له هذا التحوُّل نمطاً من التصوير، والعدول من لغة النثر
الصريح إلى لغة الشعر بمجازاته وصوره، وبِما يتطلبه من انزياحات تفرّقه عن اللغة
العادية أو المباشرة، وهي مسألة فنية في صميم المشاغل الشعرية، ومتطلبات القصيدة
عامّة، والحديثة منها خاصّة.
ولعلّ صورة الوعل ليست في جوهرها إلاّ
صورة الشاعر نفسه، في هيئة تعبير يجاوز الصوت الشعري الغنائي (الذي ألفناه عند
فودة) إلى ما يشبه الشعر الموضوعي التمثيلي، أي عبر تمثيل حالة الذات في صورة
معادلة أو ممثلة، بعيداً عن التصريح والمباشرة.
وفي صورة أخرى يقدّم الشاعر طائر البوم
في صورة تعدل به من رمز الشؤم الذي غلب عليه إلى رمز محبب، يعارض فيه الصورة
النمطية، ما يعكس دلالة هذا الطائِر، فيراه في صورة جديدة لا شؤم فيها:
"لست شؤماً
أنت معشوق اليتامى
... فأقترب
من زهور التين
والحلفا وتفاح الحقول
لا تخف منا/ يا أيها
البوم الخجول". (ص 8)
ويستحضر صوراً لكائنات حيوانية متعددة
مثل: الفيل، الشحرور، ابن آوى، الكلب السلوقي، الكنغر، الإوز، الأسماك، الغراب،
الزرافة، البطريق، ملك الغابات (الأسد)/ البلبل، الخ ... وفي كثير من مقاطع
القصيدة الستة عشر يبدو التعبير مشرقاً متدفقاً، مثلما تظهر فيه العناية العالية
بالإيقاع المركز، ما يعمق دلالات هذا العالم الرمزي الذي يبدو موازياً لعالم بشري
لا يريد الشاعر الكتابة عنه صراحةً، وإنّما يحيله إلى هذا النمط من التشبيك الرمزي
الذي لا يحتاج إلى جهد كبير في فك شفراته ورموزه (في ضوء تجربة الشاعر ومفرداته)
من مثل قوله:
"ملك الغابات
غاب
ولهذا
يجلس الآن على العرش
قطيع من كلاب". (ص 19)
فالشاعر ينقد الواقع، ويقول رأيه فيه
بهذا الأسلوب الموارب، مثلما يغادر منطقة الوضوح والمباشرة إلى منطقة العدول
الشعري.
وتكشف قصيدة "فرس البحر" مع
قصائد أخرى عن ميل الشاعر إلى التدوير الإيقاعي، بحيث تأخذ بعض المقاطع شكل
"الفقرة النثرية" من دون المحافظة على نظام السطور الشعرية مما ترسخ في
قصيدة التفعيلة، ومما أشبع عند الشاعر وعند سواه من الشعراء، كما يبني القصيدة وفق
طريقته المحببة في صورة المقاطع المرقّمة (5 مقاطع) مع التناوب الإيقاعي الذي يضاف
إلى التدوير كقيمة موسيقية إضافية، وتتناوب تفعيلة فاعلن (-ب-) مع مستفعلن (--ب-)
بين البطء والسرعة، بين السكون النسبي والحركة الجليّة، وكأن القصيدة تُحاكي حركة
أمواج البحر في تغير سرعتها وتبدّلها وفق هبوب الرياح وتأثيرها. أما المعجم الشعري
فيشتمل على النبات والحيوان والماء (البحر)، إضافة إلى المعجم المألوف عند الشاعر
(الغربة والخذلان وما يتّصل بهما).
كما يستخدم لفظة (Sorry) الإنكليزية ويكتبها بصورتها الإنكليزية محدثاً نوعاً من الصدمة
وسط السياق العربي، وهي تقنية لجأ إليها في بعض القصائد الأخرى باستخدام كلمات
قريبة مثل (Stop) أو غيرها. ويشير هذا الاستخدام إلى تمتع الشاعر بقدر من الجرأة
في الخروج على المألوف، وفي محاولة تغذية تجربته بكل ما من شأنه أن يطورها ويمنحها
شيئاً من الاختلاف والتألق.
وبصورة عامّة يتوسّع الفضاء التخييلي في
هذه القصيدة، وتغدو قدرة الشاعر أوضح في رسم مشاهد دالّة، بعيدة عن المباشرة أو
التصريح، مثلما ينكسر الصوت الواضح ويتحوّل إلى صوت خفيض يشبه الصمت بالرغم من
الوضوح الإيقاعي، لكنه إيقاع هادئ أبعد عن الغضب والصراخ، مما نجده في قصائد كثيرة
للشاعر.
و "مالك الحزين"، قصيدة
بيروتية ثالثة، تعتمد التقنيات نفسها، ولعل صورة هذا الطائر المتفرد ليس إلاّ صورة
الشاعر نفسه، وتتكون القصيدة من مقطعين مدوّرين في صورة فقرات متداخلة الجمل،
ومقطع ثالث قصير.
والمقطع الأول يركّز على الوحدة/
الانفراد، مما يتبدّى في تكرار الكلمة المفتاح (لفظة – منفرداً) التي تتكرر اثنتا
عشر مرة في سطور قليلة.
"منفرداً. منفرداً. منفرداً ...
إلى متى؟/ وأشرقت عيناه بالغناء/ صار جدول من الزهور لا يجف عن خديه/ والأنهار
أصبحت ملك يديه/ صار مارداً من الهوى/ لكنه منفرداً. منفرداً. منفرداً يسير/ يسأل
الثلوج: أيّنا الضرير؟/ لا يسمع حتّى أنّة الندى/ سُدى/ منفرداً. منفرداً. منفرداً
يعود/ قلبه على كفيه/ حزنه على كتفيه سره على شفتيه/ يمضي واحداً متّحداً ...
منفرداً. منفرداً. منفرداً). (ص 57)
فمالك الحزين هذا لا يفترق في شيء عن
الشاعر، وكأنه صوته الداخلي، أو كأنه هو ينظر في وحدته وحزنه، ولذلك يكتمل المقطع
الثاني يرسم صورة البكاء: "كان يغني. صار يبكي" وهي الجملة الأولى في
المقطع والجملة الأخيرة، أيضاً، في تعبير شجي عن معاناة الشاعر نفسه، فلا أحد يجيب
نداءه أو يسمع صوته "نادى على سابلة الطريق، مرة أو مرتين لم يردوا"،
وتضاعفت معاناته بما تعرض له من ألم وإساءة: "صار باشقٌ يشيله/ وباشق
يحطّه".
فهذا الصراع والإيذاء بعض ما تعرض له
الشاعر، وبعض ما ضاعف من ألمه وحدة شخصيته. والمقطع الأخير يؤكّد ما ذكرناه عن
تطابق الرمز (مالك الحزين) مع الرموز له (الشاعر):
"ظل يراقب
الطريق
وأبداً
ظلّ بلا صديق". (ص
59)
فهذا المعنى المرتبط بالأصدقاء، مما
كشفناه أكثر من مرة في شعر (فودة) وهو هنا يرد منسوباً إلى (مالك الحزين) الطائر
الذي يحمل قدره واسمه الحزين دائماً، فضلاً عن هجراته المتّصلة غير النهائية،
ولذلك يأخذ رمز الإنسان الغريب والمهاجر الأبدي، والحزين، وهي بعض صفات (علي فودة)
نفسه.
والقصائِد الأخرى التي بُنيت على النحو
نفسه من الترميز الحيواني أو الطبيعي لا تبتعد في كل حال عن رصد هموم الشاعر
وأحزانه وصعلكته. ففي "زهرة اللوتس" يتداخل الذاتي مع الوطني، وصوت
الشاعر أوضح في تعبيره عن إحساسه الخاص بالأشياء، والتدوير هو السمة الإيقاعية
الأبرز، ولعلّها تتناسب مع أسلوب الشاعر وروحه المتدفّقة ، ولذلك بدا التدوير
متقناً في استرساله واتّصاله، والمرأة، أيضاً، مكوّن أساس عبر صيغة الخطاب باسم
(زهرة اللوتس) مرة، وأخرى بصيغة (يا رفيقة)، ولا تبعد القصيدة عن معجم النبات
والتراب والطبيعة، مثلما تشير إلى مكوّنات شخصية الشاعر:
"كنت – فيما كنت – طيراً جامحاً
افترش النيران عند النوم ..." (ص
22).
وفي موقع آخر: "وصبياً عاشقاً
كنتُ/ وشحاذاً وزنجياً فقيراً ..." (ص
23).
وكذلك: "لم أزل للآن صعلوكاً ...
كهوف الريح مأواي، وموج البحر في قلبي ... وفي عيني انهار الدموع وغريباً لم أزل
... " (ص 24).
وهي معانٍ مكررة في شعر (علي فودة)،
ويلفتنا في مثل هذا الحال وسواه، منظور الشاعر إلى العالم والكائنات والأشياء في
صورة ماضٍ غالباً، أما الحاضر فلا يتّسع إلاّ للتذكر والاستعادة والحنين، وقلّما
يكون فيه ما هو خاص أو مميز، ليس لأنه فارغ من الناحية المنطقية، ولكن لأن الشاعر
مسكون بما هو غير متحقق وبما هو غائب، إما في الماضي عبر استعادة زمن بهيج لن
يتكرر أو يعود، وإما بالنظر إلى آمال المستقبل الميؤوس منها غالباً، كأن هذا نوع
من النكوص إلى الزمن الأول؛ زم فقد الأرض والأم في طفولة الشاعر، وهكذا ظلّ مشبعاً
بمشاعر الفقد، لا تكاد تغادره مهما يكن حاضره ممتلئاً أو فارغاً.
وفي القصائِد البغدادية لا يجاوز
الإحساس بالخيبة والخذلان والوحدة، وهو يصوّر في "النهري" من خلال ضمير
الغائب ندم الآخرين على خذلانه، في صورة حلم يقظة، يعبّر فيه – جوهرياً – عن رغبة
دفينة بأن يحس الآخرون به، ويندمون على إساءتهم أو إهمالهم:
"وقصاصات من
الشعر وجدناها على مقعدك النهري تبكيك
فأبكتنا، وسال الدمع
سال
آه يا طفلاً كبير
السن كم أحرجتنا
نحن لم نقرئك يا ...
حتى السلام
ما سألنا عنك ... عن
أوجاعك الأولى
ترانا ... هل عمينا
أم تعامينا عن الرمل الذي عفَر
أوراقك، أم أن الظلام
حجب الكوفية الحمراء
عنا والعباءة ...". ( ص 97)
ويبدو أن القصيدة في صورة وداعية معكوسة
لبغداد وأهلها، وهو يصور ما يتمنّى أن يحسّ بها الآخرون عندما يغيب من بينهم،
ويبدو أن هذا الإحساس مكمل لفكرة الأصدقاء، فهو يرغب دائماً أن يحس بالتقدير، وبمشاركة
الآخرين له في آلامه وفي ماضيه واغترابه، وحين لا يحسّ بهذه المشاركة يحمل الأمر
محمل الخذلان والخديعة.
وهو يعبّر عمّا يتمم هذه الصورة في
قصيدة بغدادية بعنوان "الماء ... الماء" تفيض بخيبته من الآخرين الذين
تقاسموا قلبه ولاكوه واحداً وراء الآخر:
"يا للخيبة ... قلت لهم: ها قلبي
بين يديكم/ يصلح باقة ورد/ يصلح قنبلة/ يصلح إبريقاً للماء إذا عزّ الماء – خذوه/
تناوله أقربهم/ حدّق فيه بعين الريبة/ ناوله الثاني – اقتطع قليلاً منه/ وناوله
للثالث والرابع والعاشر ... يا للخيبة: لاكوه قلبي لاكوه/ وفي الشارع بصقوه/ يا
للخيبة". (ص 102)
ولعل هذه الفكرة المتكررة أبداً في
شعره، هي ما ضاعفت من انفصاله عن الآخرين، واختلطت بنوع من الارتياب وعدم الثقة
بمن حوله، بوصفهم مشاريع خائنين، ولذلك فإن أقل هفوة تقع عنده موقعاً مؤثراً
وجارحاً، فيكون ردّ فعله عنيفاً معذباً، وهو ما يبدو في تضاعيف هذه التجربة ذات
الأثر المختلف المميز. وبعدُ ...
فقد عاش (علي فودة) حياة تشرد وتمرُّد،
ولعله أفاد من تجربته الحياتية أكثر مما أفاد من الثقافة والكتب، فهو شاعر تجربة
أكثر منه شاعر ثقافة وتأمل، ولذلك ظلّ الطابع العاطفي أكثر المياسم وضوحاً عنده،
كما أن ذاته المتألّمة المرتابة، لم تعطه فرصة لتأمل العالم والأشياء ومع حساسيته
الشفافة، فإن شعره – في بعض نماذجه – لم يَصْفُ تماماً، وظلّ يُعاني من بعض
المشكلات الرؤيوية والتعبيرية، دون أن يمنح نفسه فرصة التأمل والتقدير الحسن
للأشياء، ولقد غادرنا وهو في عز العمر والشعر (في سن السادسة والثلاثين) شاعراً
شاباً يعِد بتجربة أكثر امتداداً وعمقاً مما وصلت إليه ... لكن يبدو أن ذلك الرصد
القدري الذي ظلّ يتصوّره ويتحدّث عنه قد كان له بالمرصاد، فرحل رحيل شهاب مضيء،
مثل عشرات المبدعين النبلاء، وهو حقيق بكثير من الدرس والتأمل، ولعل ما قدمناه في
هذه القراءة الأولى ما يحفز غيرنا على الاهتمام به، ووضع تجربته في سياقها
الملائِم. وهي تجربة صادقة في انفعالاتها وسكناتها لشاعر إنسان، لم يكن يميز بين
الشعر والحياة، ولم يكن يفصل بينهما، فشعره حياته، وحياته هي قصيدته.
______________________________
-
هوامش :
(1) من مظاهر هذا
التناسي والإهمال أن "موسوعة الأدب الفلسطيني – الشعر" وقد صدرت
بالعربية والإنجليزية بجهد من الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، لم تأت على ذكر
الشاعر، رغم دواوينه الخمسة، ورغم أن الموسوعة ذكرت شعراء أقل شهرة وأضعف أثراً،
ويعتمد الباحثون هذه الموسوعة كدليل للشعر الفلسطيني رغم كل عيوبها واستثناءاتها،
لعدم وجود بدائل، أو أعمال مكملة لها من ناحية بانورامية موسوعية. وقد قام الباحث
بإعداد ترجمة الشاعر مع مختارات محدودة من شعره لتظهر في "معجم البابطين
للشعراء العرب الراحلين"، الذي مازال العمل جارياً على الانتهاء منه قريباً.
(2) هذه المعلومات
الدقيقة عن حياته وما سيليها، مستقاة مما أخذته من شقيقته السيدة الفاضلة (خولة
فودة) التي تقيم في عمّان، حيث لا تتوفر أية معلومات عن الشاعر في مراجع أو مصادر
مكتوبة.
(3) مجلة "رسالة
المكتبة"، وزارة التربية والتعليم، عمّان، إصدار اللجنة العامة للمطبوعات
التربوية، العام 1969، ص 152.
(4) عبد الرحيم عمر
(أبو جمال)، مقالة: "علي المتمرد الذي سكت"، زاوية "مع الحياة
والناس"، جريدة الدستور الأردنية، عمّان، 19/8/1982.
(5) إلياس خوري، باب
الشمس، دار الآداب، بيروت، 1998، ص 425 – 426.
(6) فايز محمود،
مقالة: "علي فودة ... المرصود"، في جريدة الرأي الأردنية، عمّان،
21/12/1984.
(7) المرجع نفسه.
(8) يقول علي فودة عن
سبب هذه التسمية في أحد لقاءاته القليلة: "الغجر الودعاء إخوتي: إنهم الأكثر
صدقاً وإثارة في أزماننا هذه، أزمان الاغتيالات وقنابل النيوترون ... وسفك دم
الشعوب الفقيرة وقنص العصافير. إن الغجري الذي تحدّثت عنه هو رمز الطهارة والشجاعة
الخارقة والحنين اللانهائي لعالم الحرية المفقود. إنه الفلسطيني المقذوف خارج وطنه
... والعربي الذي سلبت حريته ... والزنجي الذي حورب ظلماً، وكل إنسان كتب عليه
المكابدة من أجل العدالة والحرية والجمال في كل زمان ومكان". عم مقالة (جهاد
الرنتيسي) في الذكرى الثامنة لاستشهاد "علي فودة: مسيح الأدب
الفلسطيني"، في جريدة الأهالي الأردنية، ع (1068)، 16/6/1990.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق