الأحد، 31 مايو 2015

العلامة ناصر الدين الأسد (1922-2015)

رحيل العلامة ناصر الدين الأسد
أ.د.محمد عبيد الله

رحل أستاذنا العلامة ناصر الدين الأسد عن ثلاثة وتسعين عاما في عمان مؤخرا،  قضاها حارسا مهيبا من حراس العربية لغة وثقافة وهوية، وبرحيله تفقد الأمة العربية والإسلامية علما رفيعا من أعلامها الكبار لينضم إلى سجل الخالدين، إلى من سبقوه من العلماء الموسوعين التنويريين، كطه حسين وإحسان عباس وشوقي ضيف وحمد الجاسر ومحمد الطاهر بن عاشور وعبد الله كنون وغيرهم وغيرهم من مشرق العالم العربي ومغربه.
وما أكثر ما يتذكره المرء من آثار الأسد الراحل، ولكنني في غمرة رحيله أتذكر أستاذنا في الجامعة الأردنية في تسعينات القرن الماضي، كان قد تجاوز السبعين بقليل، يأتينا بقامته المحببة المهيبة، وبجسده الخفيف النحيل الذي ساعده دوما على احتمال ثقل السنوات، ملامحه السمراء التي تجتمع فيها المحبة والألفة والشدة والصرامة في وقت واحد، إصراره أن يكون للأستاذ مهابة يوجدها هو في نفوس طلابه، فيفرض احترامه على مجتمعه، قدرته الفذة على حفظ الشعر واستمتاعه بإنشاده، ولقد حفظنا معه أوسع محفوظاتنا من الشعر العربي، وأجمل قصائده وأبياته، وما زلت أحتفظ بدفتر محاضراته وفيه تلك الأبيات والقصائد التي كانت تتردد في نفس الشيخ فيبدأ بإنشادها ويطالبنا بإتمامها وحفظها، ولقد سجل جانبا من هذه الأمالي الأسدية صديقنا الأكاديمي واللغوي الأردني إسماعيل القيام في وفاء صادق لشيخنا في كتاب جعل عنوانه: الأمالي الأسدية. وهو كتاب يستحق أن يطبع من جديد ليعرف القارئ العربي جوانب خفية من شخصية الأسد العلمية والتعليمية وفي علاقته مع طلبته وطريقته في تقديم محاضراته.
ولقد حظي الراحل بتكريمات متعددة في حياته، لعل آخرها تكريم جامعة فيلادلفيا الأردنية في العام الأخير من حياته، ولقد كتبنا بحوثا في فكر أستاذنا ومنهجه، ونظّمنا يوما علميا يكرم علمه وحضوره، حضر معنا اليوم كله رغم شيخوخته وسنواته التي نافت على التسعين، وافتتح اليوم العلمي بمحاضرته المتميزة (تقاليد وقيم جامعية) منطلقا في خلفيتها من تراجع القيم الأكاديمية في عصرنا الراهن، ولا شك أن ذلك هاله وأفزعه، وهو الذي أسس الجامعة الأردنية أم الجامعات في الأردن، وقادها سنوات طويلة حتى وضعها في مصاف الجامعات المرموقة الرائدة، هاله التراجع ورأى أنه تراجع في القيم أولا، وأنه لا بد من التركيز على الدراسات الإنسانية التي تصقل شخصية الإنسان وتوسع مداركه حتى نحافظ على قيم الجامعة والمجتمع معا.
نستذكر أستاذنا الراحل الذي كان جسرا بين عصر الرواد، كان يحدثنا عن طه حسين فنحس أننا نصاحبه ونراه، ويحدثنا عن مجالس الشيخ محمود شاكر الذي ظل يذكره كمدرسة غير رسمية تكون فيها عشرات العلماء ممن درسوا في القاهرة وعرفوا الطريق إلى بيت محمود شاكر ومكتبته، وبذلك جمع الأسد بين النقيضين: طه حسين ومحمود شاكر، ولكنه بنى من تفاعله مهما شخصية جديدة تجمع بين التتريث والتحديث، بين الوفاء للماضي والانطلاق للمستقبل.
مآثر الأسد كثيرة، ويكفي كتابه الذائع: مصادر الشعر الجاهلي الذي انضم منذ عقود إلى قائمة الكتب الأكثر تأثيرا في الدراسات العربية المعاصرة، وفتح أبوابا جديدة في دراسة الشعر الجاهلي، متجاوزا شكوك طه حسين وريبته في هذا الشعر مقفلا بابها إقفالا علميا إلى الأبد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-        أستاذ الأدب والنقد بجامعة فيلادلفيا الأردنية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق