رؤية
في قراءة النص
النص
بنية مستقلة تمتلك توازناً ذاتياً
محمد عبيد الله
كيف نقرأ
النص الأدبي؟ وما هي المداخل الممكنة التي تساعد على تفكيك شبكة العلامات وفهم
شفرتها؟ بل أين يكمن النص: في الكلمات_ اللغة أم في الكاتب ، أم في مسافة وسطى بين
المنتج والمتلقي؟ هذه الأسئلة القليلة بعض ما يرد في سياق تداول عملية القراءة،
والكيفيات التي ينبغي أن تتجه إليها، أو مجموعة الإجراءات التي يمكن أن تساهم في
الاقتراب من النص، ومقاربته على نحو أفضل، وهي لا شك أسئلة مستعصية على الإجابات
النهائية،، لكن تأمّلها يعمّق معنى القراءة ومدلولها، بل وظيفتها التي لا تقل
أهمية عن تجربة الكتابة نفسها.
وقد مرّت
تجربة قراءة النصوص باختلاف مستواها من البسيط إلى المعقّد، من القراءة المستمتعة
إلى المتبصرة، بمراحل مختلفة وباتجاهات شتى برزت في حركة النقد العربي، هذا إذا عددنا
النقد تجربة عليا في القراءة. ويمكن أن نعيد أسباب الاختلاف إلى تباين المنابع في
النظر إلى ملكية النص، وتباين تلك المنابع أدى إلى اختلاف القراءات وتعدد مداخلها
ونتائجها وإجراءاتها وهي تعود إلى ثالوث أساسي يتمثل في الوجوه الثلاثة لعملية
الإبداع: الكاتب، النص، القارئ. وهذا الثالوث هو الذي يقوم عليه نجاح عملية
الاتصال الإبداعي واكتمال دائرة الرسالة الأدبية.
الكاتب:
أمّا الكاتب وهو منتج النص، فقد قامت حوله، وانطلقت منه
المدارس أو التيارات الخارجية في قراءة النص، وفي هذا السياق برزت القراءات الاجتماعية
(السوسيولوجية) والنفسية (السيكولوجية) وما يشبهها، وتلك القراءات عنيت بسيرة
الكاتب وتفاصيل حياته، وبيئته ونشأته، وغير ذلك من عوامل خارجية، تعتقد تلك
المدارس أنها هامة في فهم الإنتاج الإبداعي، وهي تقوم على مبدأ كبير أننا لن نفهم
العمل ما لم نفهم العامل، ولن نتفاعل مع الإنتاج ما دام المُنتِج غائباً، وهنا لا
بد من وضع النص في سياق كاتبه، والبحث عن العوامل التي أنتجت النص أو أثّرت فيه
مما له صلة بالكاتب وظروفه وعصره وبيئته.
النص:
وقد قامت ثورة نقدية على التيار الخارجي السابق حتى كادت
تقضي عليه، وكان شعارها الحياة للنص، والموت للمؤلف. ولعل المقالة الشهيرة لرولان
بارت عن "موت المؤلف" هي أكبر تجلٍ لهذا التيار الذي ينطلق من النص،
اعتماداً على اللغة وعلى إغلاق النص واعتباره بُنية مكتملة، مستغنية عن كل ما
عداها، فالنص بنية مستقلة تمتلك توازناً ذاتياً، منفصلاً عن التاريخ، فهو مستقر،
والقراءة هدفها الكشف عن السر البنيوي فيه اعتماداً على علاقاته وأنساقه الداخلية،
ومن هذا الحماس للنص نشأت القراءات البنيوية والشكلية إجمالاً، وقد وظَّفت هذه
التيارات كل مكتسبات اللسانيات وعلوم اللغة، وخسر النص معناه مثلما استقل عن
كاتبه، فصار بلا مؤلف، نص يتيم مغلق على محتواه اللغوي. ولعل سر هذا التيار مرتبط
بالثقافة الغربية التي يُعدّ ابناً شرعياً لها، إذ يبدو قتل المؤلف والاستغناء عنه
امتداداً لقتل المنتِج بعامة في إطار تقدير الحضارة الغربية للإنتاج بغض النظر عن
صاحبه، فما الناس إلا أدوات للإنتاج، والمهم هو الإنتاج لا المنتج.. ويمكن أن
نلمّح هنا بعنوان كتاب الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في وصف البنيوية أنها "فلسفة
موت الإنسان". كما يمكن أن نذكّر بتشجيع هذه التيارات في إطار الحرب الثقافية
الباردة، نظرا لأنها تعزل الكاتب والمثقف في الإطار الجمالي وتبعده عن التدخل في
شؤون العصر، كردّ على إقحام الكتاب والشعراء في المعركة السياسية والاجتماعية
بدعوى "الالتزام".
القارئ:
وقد استمرت هيمنة التيارات النصّيّة، لدرجة أنها لم تؤد
إلى عزل النصوص عن كتابها فقط، وإنما عن الجمهور وعن القرّاء، فلم يعد القارئ
قادراً على التفاهم مع تلك القراءات المسنودة بجداول تعدّ الحروف والأفعال، وترسم
أشكالاً تؤدي إلى موت النص بدلاً من إحيائه، وتؤدي إلى عُزلته عن قارئه المفترض.
وهكذا نشأت نزعة جديدة تنادي بإنصاف القارئ الذي أهملته النظرية النقدية في ظل
إعلائها من المؤلف والنص. وهكذا ظهر التيار الذي يتحدث عن القارئ النموذجي، الذي
يشبه ما أسماه أسلافنا بالقارئ العمدة في النقد العربي القديم، وصار المبدأ كما
يلي: القارئ هو المرسل إليه، وهو صاحب الكلمة الأخيرة في النص ولا معنى للنص من
غير قارئ، إذن فهو الذي يحدد المعنى، ولا معنى خارج عملية التلقّي، واعتماداً على
ذلك قامت مدارس الاستقبال ونظريات التلقّي وجرى تطوير نظريات التأويل. والنقد
العالمي الراهن تتنازعه التيارات الثلاثة، فهي تتجاور على نحو عجيب.
يمكن
قراءة النص الواحد من هذه المراحل وما يتفرع عنها، والسر في ذلك أنّ النص المبدع
قابل لقراءات شتى، فهو بما يستقر فيه من عوامل التجدد والإبداع والرؤية الممتدة يمكن
أن يستوعب ما لا حدّ له من القراءة بكل مستوياتها وأبعادها.
أنواع القراءات:
وإذا
تجاوزنا الخطاطة السابقة التي تكشف عن أسباب اختلاف القراءات وتنوع مداخلها في
نظرية النقد، فإننا يمكن أن نطل على مستوى آخر من القراءة وأنماطها. وهذه الأنماط
أو الأنواع تعود إلى القارئ الناقد ويمكن تلخيصها فيما يأتي:
1 - قراءة متعالية: تجد في النص ما ليس فيه
أي أنها تعلو على النص، وتتعالى عليه وأهم أنماطها القراءة التأويلية والسيميائية
عموماً، فهي قراءة تعتمد على إبداع الناقد القارئ العمدة. ويمكن أن تكون القراءة
النصيّة من هذا النمط، لأنها تختلق بُنىً وانساقاً وعلامات لم يقصدها المبدع ولم
ينشغل بها، وقد تتحول إلى نمط من تأويل النص وخنقه في قوالب لا تناسبه، وذلك عندما
يبالغ فيها، فتتجاوز إمكانيات النص ومسارات الدلالة فيه، كذلك يمكن أن تعد الدراسة
الأسلوبية نوعاً من القراءة المتعالية عندما تكشف ما ليس في النص وتبالغ في ربط
الأنماط الأسلوبية الطبيعية في اللغة بدلالات كبرى قد لا يتيحها النص نفسه.
2 - قراءة متعالقة: وهي القراءة المرتبطة
بالتناص الذي توسع الاهتمام به مع جوليا كريستيفا وجيرار جينت صاحب نظرية جامع
النص، وهنا يعدّ النص ملتقى للنصوص الأخرى، فهو نص مستقل لكنه تكوّن من نصوص أخرى
حتى دون نيّة مؤلفه، وعملية القراءة تستلزم رؤيته لا مستقلاً مغلقاً، وإنما من
خلال الكشف عن الروابط التعالقية في النص، وتفكيك التعالق النصي أي قراءة العمل
الأدبي في ضوء مجموعة كبيرة من النصوص الأخرى التي لا تسمح للنص أن يستقل عن غيره
من النصوص، لأن التناص نظرية مرتبطة باللغة وتاريخ استعمال الكلمات، فإذا استخدم
المبدع لغة معينة وكتب في جنس معين فهو بالضرورة سيتعالق مع سلسلة من النصوص التي
أُنتجت قبله، ولا يمكنه أن ينتج نصاً جديداً خالصا، فالتناص حتمي سواء أكان صريحاً
أم ضمنياً.
3 - قراءة متجاهلة: وهي أسوأ القراءات إذ
أنها تتجاهل النص لصالح الحكم عليه بالاستحسان أو الاستهجان، وتظل تدور حول النص
من دون أن تتداخل معه، فيقول صاحبها: هذا النص أعجبني، هذا جيد، وذاك رديء... من
غير أن تقدم الأسباب التي أوصلت إلى هذا المستوى النهائي من التقييم الفاصل.
وغالباً لا تفيد هذه القراءة في شيء لأنها قراءة معيارية تُصدر أحكاماً من دون
مقدمات، إنّ المهم في القراءة فضاء التحليل لا الحكم، وعادةً ما يُترك التقييم
لمراحل نهائية،أو يُسكت عنه لأنه يصبح نتيجة ضمنية يمكن استنتاجها من التحليل
نفسه.
قراءة النص علم أم فن؟
تميز القرن العشرون بمكتسبات العلم الحديث والنزعة
التجريبية، وبالوصول بالتقنية إلى أبعد حدودها، ولعل من أوهام الحداثة التي قامت
اعتماداً على العلم وفلسفته في القرن السابق اعتقادها بأن كل شيء يمكن أن يخضع
لسيطرة العلم، فيتم تعريضه لتجارب منضبطة تكشف عن محتواه ومكوّناته، وقد تأثر
النقد بذلك فنشأ تيار رغب في تحويل القراءة إلى ما يشبه المختبر العلمي، بل صرنا
نقرأ مصطلحات وتسميات من مثل: المختبر السردي، مختبر الشعر. وحاول بعض النقّاد
اختبار إمكانية تحويل القراءة النقدية إلى دراسة علمية وموضوعية بحتة لا تختلف عن
أطر العلم الحديث في شيء، لكن الطبيعة الزئبقية والتعبيرية للنص الأدبي وقفت
حائلاً دون الوصول إلى هذا الهدف، لكن هذا المسعى أسهم في وصول قراءة النصوص إلى
مرحلة: بين بين، فصار في النقد شيء من العلم وكثير من الفن المتصل بالذوق الجمالي.
وكل هذا المناخ القرائي مردّه إلى الفضاء الممتد في النص
الأدبي.. وتعدد القراءات بمختلف مستوياتها ليس أمراً مفرغاً ولا سلبياً، وإنما هو
أمر طبيعي وإيجابي في ظل تعدد الرؤى، وتطور الوعي الإنساني، وما النص إلا أفق ممتد
لذلك الوعي.