الجمعة، 8 أبريل 2016

الأنواع السردية عند العرب

الأنواع السردية عند العرب: منظور تجنيسي
محمد عبيد الله
          لم يتوقف البحث في نظرية الأجناس بالرغم مما تعرضت له النظرية من تحولات وتطورات، من مطلق الاحتكام إليها والانطلاق منها، إلى مطلق الدعوة إلى تقويضها والثورة عليها، وخصوصا في موجة ما بعد الحداثة، بـ (ما بعدياتها) وتجاوزاتها وتقويضاتها التي أخذت صيغة دعوات قطعية ترفض وتهدم ولا تبني أو تقترح، أي أنها أخذت صيغا شعاراتية أكثر منها فعلية، المهم أنها رفضت المنظور التجنيسي كما هو شأن مفاهيم ومداخل راسخة أخرى فصار بالإمكان الحديث عن: ما بعد الاجناس أو موت الأجناس ضمن سلسلة "الأموات" الذين توهمت حركة ما بعد الحداثة إمكانية إقصائهم أو قتلهم.
           ولكن يبدو أن المفاهيم الكبرى عصية على الموت، ومنها مفهوم الأجناس الذي تجدد البحث فيه ولم يمكن إقصاؤه من ساحة النقد والدراسة الأدبية. وقد تكون مثل هذه الدعوة بموت الأجناس أو تجاوزها مفهومة ضمن سياق الثقافة الغربية التي أشبعت هذا المدخل بحثا وجدلا من أفلاطون وأرسطو وصولا إلى هيجل وكروتشه ولوكاش، وفي العقود الأخيرة تناولها تودروف ونورثروب فراي وجيرار جينيت وجان ماري شيفر وروبرت شولز وغيرهم كثير ممن انطلقوا من هذه النظرية وجددوا البحث فيها اعتمادا على اقتراح مداخل جديدة للتجنيس والتصنيف وعلاقات الأنواع والأجناس.
          أما في المستوى العربي فلم تأخذ الدراسة الأجناسية حقها حتى اليوم، وليس في المكتبة العربية إلا بضعة بحوث وكتابات معظمها أقرب لتلخيص آراء الكتاب الغربيين، وقليل منها ينطوي على أصالة في النظر والتناول. وهذا يعني أن التجنيس محتاج لمزيد من الاهتمام فيما يخص النظرية أو تطبيقاتها ، دون أن نصادر هذا النوع من الدراسة جريا وراء "الموضة" الأدبية ومقتضياتها.
          ينطوي مفهوم التجنيس على نظرة تصنيفية تهدف إلى التبويب والتوزيع، وقد سعى الإنسان إلى تصنيف سائر الظواهر البشرية والطبيعية، بهدف فهمها ومحاورتها. فالتصنيف أمر مركزي وأساسي في تحليل مختلف الظواهر المحيطة بالإنسان. وليس الأدب ظاهرة استثنائية ضمن دائرة إدراك الإنسان وإنتاجه وإبداعه، فكما يمكن تصنيف أنواع النبات والحيوان يمكن تصنيف مختلف الظواهر على حد سواء.
          هذه النظرة التصنيفية تبدو من الأمور المقررة عند دارسي الأجناس الأدبية، ولكن البحث لا يتوقف عندها بل يتجاوزها إلى الاختلاف في منطلقات التصنيف وأسسه، وكلما تغير المدخل التصنبفي تتغير الأنواع تبعا لذلك، كما يدخل في الدراسة الأجناسية مسألة المقابلة بين الأجناس والبحث في المؤتلف والمختلف بينها، وهجرة الأجناس وتحولاتها وتداخلها وميلادها وانقراضها، وأحيانا ربط ذلك كله بأحوال معينة في المحيط الطبيعي أو الاجتماعي أو الثقافي..لتفسير تنوع الأجناس أو تحولاتها أو انقراض بعضها وموتها.
          وكما يشير محمد الهادي الطرابلسي  فيمكننا أن نشير إلى أهمية المدخل الأجناسي في مجال الدراسة والممارسة النقدية حتى وإن لم يكن شرطا مسبقا للإنتاج الإبداعي، "فليست معرفة الأجناس الأدبية شرطا في الكتابة الأدبية، وإنما هي تمثل شرط الانطلاق في العملية النقدية، هي عملية رصد للحركة الإبداعية والنصوص التي تنتجها لفهم الأسباب والمسببات وتمييز العوامل الطارئة وتقدير مدى التغير وحصر مجالات التطور"(1).
          أما مصطلح السرد فنستخدمه هنا تسمية لجنس أدبي له مواصفات معينة، دون أن نلغي محمولاته ودلالاته الأخرى المعروفة، ويمكن استعارة صياغة سعيد يقطين في تحديد هذا المصطلح بحيث يغدو السرد العربي: " المفهوم الجامع لكل التجليات المتصلة بالعمل الحكائي، ويتسع لكل ما تفرق في مصطلحات عربية قديمة وحديثة تتصل كلها بصيغة أو بأخرى بأحد الأنواع الحكائية، ولم يرق أي منها ليكون في الاستعمال العربي ذلك المفهوم الجامع الذي يتخذ بعد الجنس". ويستند هذا الاختيار لمفهوم السرد " ليكون المفهوم الجامع لمختلف الممارسات التي تنهض على أساس وجود "مادة حكائية" إلى الانطلاق من مقولة الصيغة التي توظف في تقديم المادة الحكائية. وليست الصيغة هنا غير السرد الذي يضطلع به الراوي، وذلك على اعتبار أن صيغة السرد هي المقولة المحددة لأي عمل سردي من جهة، ومن جهة ثانية لأنها المقولة الجامعة التي تلتقي بواسطتها كل الأعمال الحكائية، ومن خلالها أخيرا تتجسد، وبها تختلف عن غيرها من الأجناس. وتبعا لهذه التحديدات يغدو السدر العربي هو   الجنس الذي توظف فيه صيغة السرد وتهيمن على باقي الصيغ في الخطاب، ويحتل فيه الراوي موقعا هاما في تقديم المادة الحكائية"(2).
          وما يقع ضمن مسمى "السرد العربي" مادة حكائية واسعة ممتدة زمانا ومكانا، ولم تحظ هذه المادة باهتمام النقد العربي القديم فلم يتناولها ولم يعن بتجنيسها، بل إن الاعتراف بالسرد من ناحية انتمائه للأنواع الأدبية يبدو أمرا متأخرا في النقد العربي الذي عني بنقد الشعر أوضح عناية، وأما الإشارات القليلة إلى بعض الأعمال الحكائية فتفيد بأن الوعي العربي والنقد العربي القديم نظرا بارتياب إلى السرد وأصحابه، ولم يعترف بأدبية السرد إلا في حدود ضيقة وهامشية ونادرة.
          نظر النقد العربي القديم إلى الأجناس ضمن منظور ثنائي: المنظوم والمنثور، أو الشعر والنثر، ولعل السرد عند من اعترف به ينضوي تحت صيغة النثر، ولكن هذه الصيغة عندهم تشير غالبا إلى أنواع نثرية غير قصصية، كالخطب والرسائل والوصايا وأنواع مشابهة نالت شيئا من الرضا، أما الأنواع السردية فكانت غالبا خارج الاعتراف والاهتمام النقدي والسلطوي.
          وفي سياق إعادة الاعتبار للسرد نعيد النظر في المبدأ الثنائي لتقسيم الأجناس عند العرب، ونقترح مبدأ ثلاثيا(3) عوضا عن التقسيم الثنائي الذي يغيّب السرد وينفيه، وفي ضوء هذا الاجتهاد تغدو الصيغ الأجناسية الكبرى عند العرب ثلاث صيغ أساسية هي:
  1. الشعر، وهو جنس شديد الوضوح، مشبع بالتعريف والتمييز، وله أنواع متعددة عند العرب منها: القصيدة، والرجز، والموشح وغيرها. كما جرى تقسيمه إلى أنواع من منظور الأغراض، كأن يقال: المديح والغزل والرثاء...
  2. النثر، ونعني به وفق مبدأ التقسيم الثلاثي للصيغ الجامعة: النثر غير القصصي. ويضم أنواعا من مثل: الخطبة وسجع الكهان والأمثال والأقوال السائرة والحكم والوصية والرسالة والتوقيعات وغيرها.
  3. السرد، وأما السرد فيغدو صيغة أجناسية جامعة للأنواع والأنماط ذات الصفة القصصية والحكائية.
          وإذا كان النقد القديم لا يفيدنا في حصر المادة السردية وتصنيفها، فإن ما وصلنا من المادة الحكائية أو ما وصلنا من ذكر لها أو لبعض أجزائها يمكن أن يكون مدخلا للتصنيف ولو بأثر رجعي، أي الانطلاق من النص إلى الجنس وليس من الجنس إلى النص، أما التسميات فيمكن اختيارها واقتراحها اعتمادا على التراث الحكائي نفسه من بين المصطلحات والتسميات السردية التي لم يقيض لها ما يناسبها من اهتمام نقدي يبلورها ويطورها على مستوى الأنواع السردية الواضحة.
          واعتمادا على جهد عدد من الباحثين في مجال السرديات وعلى جهدنا في هذا المجال يمكن تسمية المصطلحات/الأنواع التالية: القصة/الخبر/الحكاية/السيرة/الأسمار/الخرافة/الأسطورة (أساطير الأولين)/الرواية/النادرة/الطرفة والملحة (الحكاية المرحة)/المثل/الكرامة الصوفية/الرسالة القصصية/الرحلة/المقامة/المنامة/النبأ/تكاذيب الأعراب....
القصة/القصص:
نلاحظ أن المصطلح الشامل عند العرب هو: القَصص، بفتح القاف، وهو كما يبدو اللفظ العربي الذي يقابل مصطلح السرد Narration بالمدلول المعاصر والشائع ﻓﻲ وقتنا الراهن، ووفق ما جاء ﻓﻲ معجم (لسان العرب) لابن منظور فإن لفظة: قَصّ – قَصَص: تحمل مدلولات كثيرة، واعتمادا على ما جاء فيه يمكن أن نتبيّن ما يلي(4):
- اللفظة العربية التي تطلق اسماً على المرويات السردية بأشكالها المختلفة هي: القَصص، وهي ﻓﻲ الأصل مصدر الفعل قَصّ، ثم استخدمت استخدام الاسم لشيوعها وغلبة إطلاقها على ذلك النوع الأدبي.
- استخدم ابن منظور مصطلحات أو ألفاظاً ثلاثة: قِصة – خبر – قَصَص، وعدها كما يبدو مترادفات ولم يحاول التمييز بينها أو بيان علاقة الجزء بالكل، فهي عنده واحدة ﻓﻲ دلالتها أو معناها.
- القَصّ مرتبط بالإخبار، وبالتتبّع، ينطلق من المادي (تتبع الأثر) ويمضي باتجاه المعنوي (تتبع الأحداث أو تفاصيل الكلام والمعاني).
- هناك علاقة ما بين القَص والليل، (قصّ آثارهم: تتبعها بالليل) ويمكن أن نتذكر أن طائفة واسعة من القصة العربية ترتبط بالليل (حديث الليل – قصص السمر).
- القصة يمكن أن تكون مكتوبة (القِصص: جمع القصة التي تكتب) ويمكن أن تروى مشافهة (ربطها بالخطبة الشفوية بطبيعتها).
          ونتفق مع الناقد والباحث التونسي محمد القاضي في مجمل ملاحظاته حول مصطلح "قصة-قصص"، فهو حقا مصطلح شائع، منذ استخدام صيغته القرآنية: قصص (بالفتح)التي حملت اسمها السورة الثامنة والعشرون في القرآن كما "وردت الكلمة خمس مرات في صيغة الاسم (القصص) وهي ذات معنى إيجابي، إذ هي تدل في الغالب على ما تضمنه القرآن من قصص". ويشير محمد القاضي إلى أن الكلمة جرت على ألسنة الأدباء غير مقتصرة على المجال الديني، ويمثل على ذلك باستعمال الجاحظ لها في عناوين كتاب البخلاء وفي متنه أيضا. ولكنها ظلت تحمل مدلولا واسعا بعيدا عن التحديد أو الانضباط في نوع سردي محدد المعالم، "فظلت تدل على السرد عامة دون أن يدقق معناها على غرار ما أصبح لها في القرون اللاحقة"(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1) من كلمة محمد الهادي الطرابلسي في مفتتح ندوة:مشكل الجنس الأدبي في الأدب العربي القديم التي نظمها قسم العربية بآداب منوبة-تونس في نيسان (إفريل) 1993، ونشرت أعمال الندوة ضمن منشورات كلية الآداب-منوبة 1994.
 (2)  سعيد يقطين، السرد العربي مفاهيم وتجليات، دار رؤية، القاهرة، 2006، ص 86-87.
 (3) اقترحنا هذا التقسيم الثلاثي أول مرة في ندوة الأجناس الأدبية التي عقدها قسم اللغة العربية بجامعة فيلادلفيا في كانون الثاني 2005، ثم أشرنا إليه في كتابنا: بنية الرواية القصيرة، دار أزمنة، عمان، 2006. 
 (4) عرضنا لهذا التحليل وما يتصل به تفصيلا في بحثنا: السرد العربي القديم من الهامش إلى المركز، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، ع 98، ربيع 2007.
 (5) محمد القاضي، الخبر في الأدب العربي-دراسة في السردية العربية، منشورات كلية الآداب منوبة، تونس، 1998، ص69-72.