الخميس، 8 ديسمبر 2016

عالمية اللغة العربية

عالمية اللغة العربية

د.محمد عبيد الله

اللغة ليست كيانا مستقلا عن أبنائها والناطقين بها، بل إنها مرتبطة بهم أوثق رباط، فهي عنصر رئيسي من مكونات الهوية والثقافة، ولذلك  تتقدم بتقدمهم وتتراجع بتراجعهم. ولا تتفاضل اللغات كثيرا من ناحية خصائصها اللسانية، بل إن علماء اللغة يساوون من هذه الناحية بين سائر اللغات، ولكنها بلا شك تتفاضل من ناحية مضامينها ومحتوياتها الفكرية والأدبية والعلمية، وتعلو قيمة اللغة كلما زادت محتوياتها كما ونوعا، فهذه الزيادة المطردة تحوج الناس من أهلها وغير أهلها إلى تلك اللغة، فضلا عن أنها تشكل تحديات وتجارب تطور اللغة نفسها وتعلمها دروسا جديدة في التقدم والتطور.
وحال العربية اليوم لا يكاد يخفى على أحد، ويبدو أنها ما زالت تندب حظها كما صورها حافظ إبراهيم في بداية القرن العشرين وحتى اليوم. ولكنها غير ملومة على حالها الذي آلت إليه، بل لقد قاومت وما تزال تقاوم مستندة إلى عناصر القوة فيها، تلك العناصر التاريخية التي هيأتها لأن تتجاوز تحديات ومحنا لا تكاد تتوقف. ووسط عتمة الصورة هناك إضاءات وكوى نجحت اللغة في النفاذ منها، وكشفت عن بعض إمكاناتها حينما أتيح لها ذلك في فرص قليلة مقابل الإهمال من أهلها، والعداء من غيرهم ومن بعضهم. ومع إدراك مسوغات الحال فإن ترداد الشكوى وحده لا يكفي، والكلام على التحديات التي صار أكثرها معروفا معلوما لا ينفع، فنحن محتاجون إلى أن نشعل بعض الشموع أو ننتبه إلى وجودها أكثر من حاجتنا لمواصلة شتيمة الظلام.
لقد حظيت اللغة العربية بما لم تحظ به لغة أخرى من عوامل القوة والبقاء، فهي اللغة التي ولدت في مهد الأبجدية القديمة، وورثت بعض عناصر أمهاتها وأخواتها من لغات الشرق القديم، وهي لغة العرب قبل الإسلام، تظهر مكتملة ناضجة في الشعر الجاهلي لا يكاد ينقصها شيء. وهي بمجيء الإسلام  لغة القرآن ولغة الإسلام الدين الكوني الذي نزل للناس كافة، ولكن لغته الدينية والرسمية هي العربية التي تعلمتها الشعوب الأعجمية عندما دخل الناس في دين الله أفواجا. ثم غدت اللغةَ العالمية الأولى في عصر ازدهار الحضارة العربية وسيطرتها على العلم العالمي، ولا يضيرنا أن نذكر بالمراكز التي انتشرت لتعلم العربية ولنقل محتواها العلمي إلى اللغات الأوروبية، وإلى أثر ذلك المحتوى في وجوه شتى من عوامل النهضة الأوروبية وخروج أوروبا من عصر الظلمات وعصور الانحطاط. 
ولقد اصطبغت بها لغات الشعوب الإسلامية فتحولت إلى الكتابة بالحرف العربي كالفارسية والعثمانية (التركية القديمة) والأوردية. ولم تتقهقر هذه اللغة رغم مرور قرون طويلة من الحكم العثماني التركي وظلت قوتها نافذة رغم التحديات والمحن الكثيرة. وتعرضت في القرن العشرين لتجارب صعبة ومحاولات مريرة كي تنحني أمام العاميات مرة وأمام اللغات الأجنبية مرات، وأمام دعاوى لتغيير كتابتها والانقطاع عن ذاكرتها، ولكنها صمدت وبقيت حية، وماتت أكثر تلك الدعوات أو تحولت إلى تجارب جانبية لا تغير من جريان النهر المقدس شيئا.
إنها لغة عالمية ما في ذلك شك، بالنظر إلى عمرها المديد وشبابها المتجدد، وإلى محتواها الحضاري المتنوع على مر العصور، فأية لغة استمرت حية مثلها؟ وأية لغة تمكنت من تثبيت بعض قوانينها وطبائعها ولم تتسامح حيال التغير مثلها؟ إننا نقرأ بهذه اللغة من امرئ القيس حتى محمود درويش مثلا، ونقرأ بها الجاحظ كما نقرأ بها نجيب محفوظ..ولا نجد صعوبة في ذلك، بينما يشق مثلا على أبناء الإنجليزية اليوم أن يقرأوا تشوسر أو شكسبير بلغتهم قبل ثلاثة أو أربعة قرون.
 وإذا كان عدد الناطقين باللغة من أبنائها وغير أبنائها من المؤشرات المعتمدة في تصنيف اللغات، فإن اللغة العربية لغة ما يزيد على 300 مليون شخص ممن تعد العربية لغتهم الأم، وهي في المرتبة الرابعة عالميا من ناحية عدد الناطقين بها، وربما لو توفرت إحصاءات دقيقة مبرأة من الأغراض السياسية لتجاوزت الإسبانية والإنجليزية اللتين لا يبتعدان عنها من ناحية عدد الناطقين بهما من موقع "اللغة الأم"، ولنالت المرتبة الثانية بعد الصينية بيسر ودون صعوبات.  
وزيادة على ذلك فإنها اللغة الثانية للمسلمين الذين لا يمكنهم أداء عباداتهم وشعائرهم بغير العربية، بصرف النظر عن مستوى إتقانهم لها، بمجموع يصل إلى 1,6 مليار مسلم (2011) وبتوقعات لارتفاع هذا العدد إلى 2,2 مليار عام 2030 أي قرابة ربع سكان الكرة الأرضية. ومن الطبيعي والمفروض أن يكون هذا العامل سببا رئيسيا في عالمية اللغة العربية من ناحية ضرورة تعلمها واستخدامها إذا ما تذكرنا أنها اللغة الوحيدة المرتبطة ارتباطا مقدسا بواحد من الأديان الكبرى في العالم. وليس من لغة تدانيها من هذه الناحية، ولكن من جانب آخر فإن الحرب التي تشن على الإسلام وأهله تستهدف اللغة فيما تستهدفه لأنها إحدى جبهات الإسلام وحضارته.
إنها لغة عالمية، بعدد الناطقين بها، والمحتاجين إليها من غير أبنائها، هذا إذا تجاوزنا أعدادا كبيرة تعلموها ويتعلمونها لأسباب ثقافية وأمنية وسياسية، ولقد زاد هذا العدد في السنوات الأخيرة، وهو مرشح للزيادة في الأفق القريب. ولقد كانت هذه الخلفية سببا في اختيارها منذ عام 1973 ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها والتابعة لها.
 ومما يمكن الإشارة إليه أن منظمة التجارة العالمية "الجات" تعتمد ثلاث لغات رسمية هي: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وهناك ضغوطات ومطالبات من الأطراف العربية منذ عدة سنوات بأن تعتمد العربية ضمن اللغات الرسمية لهذه المنظمة الدولية. وآخر هذه المحاولات ما انتهى إليه وزراء التجارة العرب من الاتفاق على هذا المطلب وتقديمه في اجتماع جنيف الذي انعقد منتصف هذا الشهر، ووردت المطالبة بصراحة على لسان وزيرة التجارة الكويتية، ولكن انتهت الاجتماعات دون الموافقة على هذا المطلب فضلا عن عرقلة حصول الجامعة العربية على مقعد بصفة مراقب دائم. وهو ما يشير إلى بعض جوانب الصراع ضد العرب والعربية في المحافل الدولية. ومن المعروف أن إدخال اللغة العربية يعني ترجمة وثائق هذه المنظمة واتفاقاتها وأدبياتها كافة إلى العربية بشكل دائم، وهو أمر حيوي سواء من ناحية تواصل الناطقين بالعربية مع أدبيات المنظمة وقراراتها أو الأثر الإيجابي الذي يزيد من فرص العربية في تفاعلها مع لغة التجارة والاقتصاد، وما يتضمنه ذلك من الاعتراف بمكانتها وعالميتها، وهو أمر نأمل أن تواصل الدول العربية المؤثرة اقتصاديا وتجاريا المطالبة به وعدم التنازل عنه.
ومن ناحية بروزها على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) فرغم أن الأرقام والنسب لا تعكس قوة اللغة العربية ولا مكانتها ورغم الإهمال الذي يحيط بها ورغم أن القواعد والاسس التقنية التي بنيت عليها الشبكة ليست أسسا عادلة من الناحية التقنية واللغوية، فقد ظلت اللغة العربية تظهر ضمن لغات الإنترنت العالمية، وموقعها يتقدم باطراد مع كل إحصاء، ولقد ظهرت في الترتيب السابع من ناحية عدد المستخدمين لها على الشبكة العالمية متقدمة على لغات كثيرة منها الفرنسية والروسية والكورية. كما سجلت المرتبة الثامنة عشرة من حيث اللغات الخمسون الأكثر بروزا في الترجمة.
وفي إحدى النظرات الاستشرافية توقع الكاتب الإسباني (كاميلو جوزي سيلا) الحائز على نوبل عام 1989 أن اللغات القادرة على الصمود في وجه تغيرات العصر أربع لغات: الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية. وهي نظرة تستند إلى عوامل الانتشار والقوة الذاتية في هذه اللغات.
لقد تعددت دعاوى الموت، موت اللغة العربية وانحسارها في مراحل مختلفة، ثم عاودت الظهور مع مرحلة ثورة الاتصالات والعولمة، ومعظم هذه الدعوات مصدرها الخوف الشديد المبالغ فيه من اللغة العربية من فئة معادية للغة وللثقافة العربية، ومن فئة ثانية تخاف على اللغة فتجعل هذه الدعوى سبيلا للصدمة لعل النائمون يستيقظون ويهبون لنجدة لغتهم. ولكنها دعاوى لا نحسب أن شيئا منها سيتحقق، لأسباب كثيرة دينية وثقافية ولغوية متعاضدة متشابكة.
ولقد بدت عالمية العربية في محتواها الأدبي والفكري والإعلامي الذي أسهم في تطويرها في العصر الحديث فقطعت شوطا طويلا في التطور من هذا الجانب، ومن يراجع تطور الأدب الحديث وتطور الصحافة العربية وتطور الفكر العربي الحديث سيعرف مقدار طواعية هذه اللغة ومرونتها وإمكاناتها وكذلك سيطل على الجهد الكبير الذي بذله الأدباء والمفكرون والإعلاميون العرب مما مكنهم من تطويع العربية للعصر الجديد كلغة فكر وأدب وإعلام حديث متجدد. ولقد تمكن نجيب محفوظ رائد لارواية العربية من الحصول على جائزة نوبل العالمية ولقد لفت هذا الفوز الانتباه للعربية الحديثة المتطورة، وعزز شيئا من مكانتها بين اللغات العالمية.
أما الجانب الذي لم يتح للعربية ان تحقق إنجازات ملائمة فيه فهو الجانب العلمي والتقني، فلقد شهد العصر الحديث ثورة علمية وتقنية متسارعة، حاولت العربية اللحاق به ومواكبته ولكن تعرضت التجربة لكثير من الانتكاس ولبست لبوسا سياسيا وتعليما ظل يشدها إلى الوراء ويمنعها من تجريب حظها ومن التطور العلمي ومن التفاعل مع العلم الحديث. ولعل قضية تعريب العلوم وتعليمها بالعربية من أبرز قضايا هذا المحور. فلقد استسلمت الجامعات العربية للتعليم باللغات الاجنبية وظلت تجارب التعريب محدودة مرتبكة.
ونحن حين نعرض للعربية لا نريدها أن تغدو لغة أدب وفكر فحسب، ولكننا نريدها لغة متكاملة حية قادرة على استيعاب المحتويات العلمية والتقنية، ولكن هذا الجانب لا يمكن النهوض به من دون أن يتجه أبناء العربية من العلماء والمتخصصين في العلوم المختلفة إلى تعميق البعد العلمي في العربية تعريبا وتأليفا وتطويرا. فنحن نحتاج إلى نهوض حركة بحث علمي بالعربية، في مجالات تكنولوجيا المعلومات وغيرها، ومحتاجون إلى استكمال الجهود في تعريب المصطلحات، وإلى عدم الاستسلام إلى السهولة باستخدام الإنجليزية وحدها. فذلك لا يسمح بتوطين العلم ولا يمنح فرصة للإسهام العربي الحقيقي للغة العربية.
لقد نجحت اللغة العربية في العصور العباسية لان تكون اللغة العالمية الاولى كلغة علمية تطلع الأوروبيون إلى تعلمها لكنهم لم ينتموا إليها إنتماؤنا إلى لغاتهم اليوم، ولم يستسلموا إليها كما نستسلم اليوم وما أسرع أن تشرّبوا علمها وتفاعلوا معه ليكون أحد مكونات نهضتهم اللاحقة وخروجهم من عصر الظلمات الذي كانوا يعيشون فيه. نحن اليوم في مرحلة جديدة من الظلمة الحضارية وليست مكانة اللغة إلا أحد مؤشرات هذا العصر. وما ندعو إليه من العودة إلى أوليات الأمور من ناحية استخدام اللغة العربية كلغة علم ومعرفة علمية أحد مؤشرات الخروج.




عالمية اللغة العربية

د.محمد عبيد الله

اللغة ليست كيانا مستقلا عن ابنائها والناطقين بها، بل إنها مرتبطة بهم أوثق رباط، فهي عنصر رئيسي من مكونات الهوية والثقافة، ولذلك  تتقدم بتقدمهم وتتراجع بتراجعهم. ولا تتفاضل اللغات كثيرا من ناحية خصائصها اللسانية، بل إن علماء اللغة يساوون من هذه الناحية بين سائر اللغات، ولكنها بلا شك تتفاضل من ناحية مضامينها ومحتوياتها الفكرية والأدبية والعلمية، وتعلو قيمة اللغة كلما زادت محتوياتها كما ونوعا، فهذه الزيادة المطردة تحوج الناس من أهلها وغير أهلها إلى تلك اللغة، فضلا عن أنها تشكل تحديات وتجارب تطور اللغة نفسها وتعلمها دروسا جديدة في التقدم والتطور.
وحال العربية اليوم لا يكاد يخفى على أحد، ويبدو أنها ما زالت تندب حظها كما صورها حافظ إبراهيم في بداية القرن العشرين وحتى اليوم. ولكنها غير ملومة على حالها الذي آلت إليه، بل لقد قاومت وما تزال تقاوم مستندة إلى عناصر القوة فيها، تلك العناصر التاريخية التي هيأتها لأن تتجاوز تحديات ومحنا لا تكاد تتوقف. ووسط عتمة الصورة هناك إضاءات وكوى نجحت اللغة في النفاذ منها، وكشفت عن بعض إمكاناتها حينما أتيح لها ذلك في فرص قليلة مقابل الإهمال من أهلها والعداء من غيرهم ومن بعضهم. ومع إدراك كل مسوغات الحال فإن ترداد الشكوى وحده لا يكفي، والكلام على التحديات التي صار أكثرها معروفا معلوما لا ينفع، فنحن محتاجون إلى أن نشعل بعض الشموع أو ننتبه إلى وجودها أكثر من حاجتنا لمواصلة شتيمة الظلام.
لقد حظيت اللغة العربية بما لم تحظ به لغة أخرى من عوامل القوة والبقاء، فهي اللغة التي ولدت في مهد الأبجدية الأقدم في تاريخ الإنسان، وورثت بعض عناصر أمهاتها وأخواتها من لغات الشرق القديم، وهي لغة العرب قبل الإسلام، تظهر مكتملة ناضجة في الشعر الجاهلي لا يكاد ينقصها شيء. وهي بمجيء الإسلام  لغة القرآن ولغة الإسلام الدين الكوني الذي نزل للناس كافة، ولكن لغته الدينية والرسمية هي العربية، التي تعلمتها الشعوب الأعجمية عندما دخل الناس في دين الله أفواجا، ثم غدت اللغة العالمية الأولى في عصر ازدهار الحضارة العربية وسيطرتها على العلم العالمي، ولا يضيرنا أن نذكر بالمراكز التي انتشرت لتعلم العربية ولنقل محتواها العلمي إلى اللغات الأوروبية، وإلى أثر ذلك المحتوى في وجوه شتى من عوامل النهضة الأوروبية وخروج أوروبا من عصر الظلمات وعصور الانحطاط. ولقد اصطبغت بها لغات الشعوب الإسلامية فتحولت إلى الكتابة بالحرف العربي كالفارسية والعثمانية (التركية القديمة) والأوردية. ولم تتقهقر هذه اللغة رغم مرور قرون طويلة من الحكم العثماني التركي وظلت قوتها نافذة رغم التحديات والمحن الكثيرة. وتعرضت في القرن العشرين لتجارب صعبة ومحاولات مريرة كي تنحني أمام العاميات مرة وأمام اللغات الأجنبية مرات، وأمام دعاوى لتغيير كتابتها والانقطاع عن ذاكرتها، ولكنها صمدت وبقيت حية، وماتت أكثر تلك الدعوات أو تحولت إلى تجارب جانبية لا تغير من جريان النهر المقدس شيئا.
إنها لغة عالمية ما في ذلك شك، بالنظر إلى عمرها المديد وشبابها المتجدد، وإلى محتواها الحضاري المتنوع على مر العصور، فأية لغة استمرت حية مثلها؟ وأية لغة تمكنت من تثبيت بعض قوانينها وطبائعها ولم تتسامح حيال التغير مثلها؟ إننا نقرأ بهذه اللغة من امرئ القيس حتى محمود درويش مثلا، ونقرأ بها الجاحظ كما نقرأ بها نجيب محفوظ..ولا نجد صعوبة في ذلك، بينما يشق مثلا على أبناء الإنجليزية اليوم أن يقرأوا تشوسر أو شكسبير بلغتهم قبل ثلاثة أو أربعة قرون.
 وإذا كان عدد الناطقين باللغة من أبنائها وغير أبنائها من المؤشرات المعتمدة في تصنيف اللغات، فإن اللغة العربية لغة ما يزيد على 300 مليون شخص ممن تعد العربية لغتهم الأم، وهي في المرتبة الرابعة عالميا من ناحية عدد الناطقين بها، وربما لو توفرت إحصاءات دقيقة مبرأة من الأغراض السياسية لتجاوزت الإسبانية والإنجليزية اللتين لا يبتعدا عنها من ناحية عد الناطقين بهما من موقع "اللغة الأم"، ولنالت المرتبة الثانية بعد الصينية بيسر ودون صعوبات.  وزيادة على ذلك فإنها اللغة الثانية للمسلمين الذين لا يمكنهم أداء عباداتهم وشعائرهم بغير العربية بصرف النظر عن مستوى إتقانهم لها، بمجموع يصل إلى 1,6 مليار مسلم (2011) وبتوقعات لارتفاع هذا العدد إلى 2,2 مليار عام 2030 أي قرابة ربع سكان الكرة الأرضية. ومن الطبيعي والمفروض أن يكون هذا العامل سببا رئيسيا في عالمية اللغة العربية من ناحية ضرورة تعلمها واستخدامها إذا ما تذكرنا أنها اللغة الوحيدة المرتبطة ارتباطا مقدسا بواحد من الأديان الكبرى في العالم. وليس من لغة تدانيها من هذه الناحية، ولكن من جانب آخر فإن الحرب التي تشن على الإسلام وأهله تستهدف اللغة فيما تستهدفه لأنها إحدى جبهات الإسلام وحضارته.
إنها لغة عالمية، بعدد الناطقين بها، والمحتاجين إليها من غير أبنائها، هذا إذا تجاوزنا أعدادا كبيرة تعلموها ويتعلمونها لأسباب أمنية وسياسية، ولقد زاد هذا العدد في السنوات الاخيرة وهو مرشح للزيادة في الأفق القريب. ولقد كانت هذه الخلفية سببا في اختيارها منذ عام 1973 ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها والتابعة لها.
 ومما يمكن الإشارة إليه أن منظمة التجارة العالمية "الجات" تعتمد ثلاث لغات رسمية هي: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وهناك ضغوطات ومطالبات من الأطراف العربية منذ عدة سنوات بأن تعتمد العربية ضمن اللغات الرسمية لهذه المنظمة الدولية. وآخر هذه المحاولات ما انتهى إليه وزراء التجارة العرب من الاتفاق على هذا المطلب وتقديمه في اجتماع جنيف الذي انعقد منتصف هذا الشهر، ووردت المطالبة بصراحة على لسان وزيرة التجارة الكويتية، ولكن انتهت الاجتماعات دون الموافقة على هذا المطلب فضلا عن عرقلة حصول الجامعة العربية على مقعد بصفة مراقب دائم. وهو ما يشير إلى بعض جوانب الصراع ضد العرب والعربية في المحافل الدولية. ومن المعروف أن إدخال اللغة العربية يعني ترجمة وثائق هذه المنظمة واتفاقاتها وأدبياتها كافة إلى العربية بشكل دائم، وهو أمر حيوي سواء من ناحية تواصل الناطقين بالعربية مع أدبيات المنظمة وقراراتها أو الأثر الإيجابي الذي يزيد من فرص العربية في تفاعلها مع لغة التجارة والاقتصاد، وما يتضمنه ذلك من الاعتراف بمكانتها وعالميتها، وهو أمر نأمل أن تواصل الدول العربية المؤثرة اقتصاديا وتجاريا المطالبة به وعدم التنازل عنه.
ومن ناحية بروزها على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) فرغم أن الأرقام والنسب لا تعكس قوة اللغة العربية ولا مكانتها ورغم الإهمال الذي يحيط بها ورغم أن القواعد والاسس التقنية التي بنيت عليها الشبكة ليست أسسا عادلة من الناحية التقنية واللغوية، فقد ظلت اللغة العربية تظهر ضمن لغات الإنترنت العالمية، وموقعها يتقدم باطراد مع كل إحصاء، ولقد ظهرت في الترتيب السابع من ناحية عدد المستخدمين لها على الشبكة العالمية متقدمة على لغات كثيرة منها الفرنسية والروسية والكورية. كما سجلت المرتبة الثامنة عشرة من حيث اللغات الخمسون الأكثر بروزا في الترجمة.
وفي إحدى النظرات الاستشرافية توقع الكاتب الإسباني (كاميلو جوزي سيلا) الحائز على نوبل عام 1989 أن اللغات القادرة على الصمود في وجه تغيرات العصر أربع لغات: الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية. وهي نظرة تستند إلى عوامل الانتشار والقوة الذاتية في هذه اللغات.
لقد تعددت دعاوى الموت، موت اللغة العربية وانحسارها في مراحل مختلفة، ثم عاودت الظهور مع مرحلة ثورة الاتصالات والعولمة، ومعظم هذه الدعوات مصدرها الخوف الشديد المبالغ فيه من اللغة العربية من فئة معادية للغة وللثقافة العربية، ومن فئة ثانية تخاف على اللغة فتجعل هذه الدعوى سبيلا للصدمة لعل النائمون يستيقظون ويهبون لنجدة لغتهم. ولكنها دعاوى لا نحسب أن شيئا منها سيتحقق، لأسباب كثيرة دينية وثقافية ولغوية متعاضدة متشابكة.
ولقد بدت عالمية العربية في محتواها الادبي والفكري والإعلامي الذي أسهم في تطويرها في العصر الحديث فقطعت شوطا طويلا في التطور من هذا الجانب، ومن يراجع تطور الأدب الحديث وتطور الصحافة العربية وتطور الفكر العربي الحديث سيعرف مقدار طواعية هذه اللغة ومرونتها وإمكاناتها وكذلك سيطل على الجهد الكبير الذي بذله الأدباء والمفكرون والإعلاميون العرب مما مكنهم من تطويع العربية للعصر الجديد كلغة فكر وأدب وإعلام حديث متجدد. ولقد تمكن نجيب محفوظ رائد لارواية العربية من الحصول على جائزة نوبل العالمية ولقد لفت هذا الفوز الانتباه للعربية الحديثة المتطورة، وعزز شيئا من مكانتها بين اللغات العالمية.
أما الجانب الذي لم يتح للعربية ان تحقق إنجازات ملائمة فيه فهو الجانب العلمي والتقني، فلقد شهد العصر الحديث ثورة علمية وتقنية متسارعة، حاولت العربية اللحاق به ومواكبته ولكن تعرضت التجربة لكثير من الانتكاس ولبست لبوسا سياسيا وتعليما ظل يشدها إلى الوراء ويمنعها من تجريب حظها ومن التطور العلمي ومن التفاعل مع العلم الحديث. ولعل قضية تعريب العلوم وتعليمها بالعربية من أبرز قضايا هذا المحور. فلقد استسلمت الجامعات العربية للتعليم باللغات الاجنبية وظلت تجارب التعريب محدودة مرتبكة.
ونحن حين نعرض للعربية لا نريدها أن تغدو لغة أدب وفكر فحسب، ولكننا نريدها لغة متكاملة حية قادرة على استيعاب المحتويات العلمية والتقنية، ولكن هذا الجانب لا يمكن النهوض به من دون أن يتجه أبناء العربية من العلماء والمتخصصين في العلوم المختلفة إلى تعميق البعد العلمي في العربية تعريبا وتأليفا وتطويرا. فنحن نحتاج إلى نهوض حركة بحث علمي بالعربية، في مجالات تكنولوجيا المعلومات وغيرها، ومحتاجون إلى استكمال الجهود في تعريب المصطلحات، وإلى عدم الاستسلام إلى السهولة باستخدام الإنجليزية وحدها. فذلك لا يسمح بتوطين العلم ولا يمنح فرصة للإسهام العربي الحقيقي للغة العربية.
لقد نجحت اللغة العربية في العصور العباسية لان تكون اللغة العالمية الاولى كلغة علمية تطلع الأوروبيون إلى تعلمها لكنهم لم ينتموا إليها إنتماؤنا إلى لغاتهم اليوم، ولم يستسلموا إليها كما نستسلم اليوم وما أسرع أن تشربوا علمها وتفاعلوا معه ليكون أحد مكونات نهضتهم اللاحقة وخروجهم من عصر الظلمات الذي كانوا يعيشون فيه. نحن اليوم في مرحلة جديدة من الظلمة الحضارية وليست مكانة اللغة إلا أحد مؤشرات هذا العصر. وما ندعوا إليه من العودة إلى أوليات الامور من ناحية استخدام اللغة العربية كلغة علم ومعرفة علمية أحد مؤشرات الخروج.




الجمعة، 8 أبريل 2016

الأنواع السردية عند العرب

الأنواع السردية عند العرب: منظور تجنيسي
محمد عبيد الله
          لم يتوقف البحث في نظرية الأجناس بالرغم مما تعرضت له النظرية من تحولات وتطورات، من مطلق الاحتكام إليها والانطلاق منها، إلى مطلق الدعوة إلى تقويضها والثورة عليها، وخصوصا في موجة ما بعد الحداثة، بـ (ما بعدياتها) وتجاوزاتها وتقويضاتها التي أخذت صيغة دعوات قطعية ترفض وتهدم ولا تبني أو تقترح، أي أنها أخذت صيغا شعاراتية أكثر منها فعلية، المهم أنها رفضت المنظور التجنيسي كما هو شأن مفاهيم ومداخل راسخة أخرى فصار بالإمكان الحديث عن: ما بعد الاجناس أو موت الأجناس ضمن سلسلة "الأموات" الذين توهمت حركة ما بعد الحداثة إمكانية إقصائهم أو قتلهم.
           ولكن يبدو أن المفاهيم الكبرى عصية على الموت، ومنها مفهوم الأجناس الذي تجدد البحث فيه ولم يمكن إقصاؤه من ساحة النقد والدراسة الأدبية. وقد تكون مثل هذه الدعوة بموت الأجناس أو تجاوزها مفهومة ضمن سياق الثقافة الغربية التي أشبعت هذا المدخل بحثا وجدلا من أفلاطون وأرسطو وصولا إلى هيجل وكروتشه ولوكاش، وفي العقود الأخيرة تناولها تودروف ونورثروب فراي وجيرار جينيت وجان ماري شيفر وروبرت شولز وغيرهم كثير ممن انطلقوا من هذه النظرية وجددوا البحث فيها اعتمادا على اقتراح مداخل جديدة للتجنيس والتصنيف وعلاقات الأنواع والأجناس.
          أما في المستوى العربي فلم تأخذ الدراسة الأجناسية حقها حتى اليوم، وليس في المكتبة العربية إلا بضعة بحوث وكتابات معظمها أقرب لتلخيص آراء الكتاب الغربيين، وقليل منها ينطوي على أصالة في النظر والتناول. وهذا يعني أن التجنيس محتاج لمزيد من الاهتمام فيما يخص النظرية أو تطبيقاتها ، دون أن نصادر هذا النوع من الدراسة جريا وراء "الموضة" الأدبية ومقتضياتها.
          ينطوي مفهوم التجنيس على نظرة تصنيفية تهدف إلى التبويب والتوزيع، وقد سعى الإنسان إلى تصنيف سائر الظواهر البشرية والطبيعية، بهدف فهمها ومحاورتها. فالتصنيف أمر مركزي وأساسي في تحليل مختلف الظواهر المحيطة بالإنسان. وليس الأدب ظاهرة استثنائية ضمن دائرة إدراك الإنسان وإنتاجه وإبداعه، فكما يمكن تصنيف أنواع النبات والحيوان يمكن تصنيف مختلف الظواهر على حد سواء.
          هذه النظرة التصنيفية تبدو من الأمور المقررة عند دارسي الأجناس الأدبية، ولكن البحث لا يتوقف عندها بل يتجاوزها إلى الاختلاف في منطلقات التصنيف وأسسه، وكلما تغير المدخل التصنبفي تتغير الأنواع تبعا لذلك، كما يدخل في الدراسة الأجناسية مسألة المقابلة بين الأجناس والبحث في المؤتلف والمختلف بينها، وهجرة الأجناس وتحولاتها وتداخلها وميلادها وانقراضها، وأحيانا ربط ذلك كله بأحوال معينة في المحيط الطبيعي أو الاجتماعي أو الثقافي..لتفسير تنوع الأجناس أو تحولاتها أو انقراض بعضها وموتها.
          وكما يشير محمد الهادي الطرابلسي  فيمكننا أن نشير إلى أهمية المدخل الأجناسي في مجال الدراسة والممارسة النقدية حتى وإن لم يكن شرطا مسبقا للإنتاج الإبداعي، "فليست معرفة الأجناس الأدبية شرطا في الكتابة الأدبية، وإنما هي تمثل شرط الانطلاق في العملية النقدية، هي عملية رصد للحركة الإبداعية والنصوص التي تنتجها لفهم الأسباب والمسببات وتمييز العوامل الطارئة وتقدير مدى التغير وحصر مجالات التطور"(1).
          أما مصطلح السرد فنستخدمه هنا تسمية لجنس أدبي له مواصفات معينة، دون أن نلغي محمولاته ودلالاته الأخرى المعروفة، ويمكن استعارة صياغة سعيد يقطين في تحديد هذا المصطلح بحيث يغدو السرد العربي: " المفهوم الجامع لكل التجليات المتصلة بالعمل الحكائي، ويتسع لكل ما تفرق في مصطلحات عربية قديمة وحديثة تتصل كلها بصيغة أو بأخرى بأحد الأنواع الحكائية، ولم يرق أي منها ليكون في الاستعمال العربي ذلك المفهوم الجامع الذي يتخذ بعد الجنس". ويستند هذا الاختيار لمفهوم السرد " ليكون المفهوم الجامع لمختلف الممارسات التي تنهض على أساس وجود "مادة حكائية" إلى الانطلاق من مقولة الصيغة التي توظف في تقديم المادة الحكائية. وليست الصيغة هنا غير السرد الذي يضطلع به الراوي، وذلك على اعتبار أن صيغة السرد هي المقولة المحددة لأي عمل سردي من جهة، ومن جهة ثانية لأنها المقولة الجامعة التي تلتقي بواسطتها كل الأعمال الحكائية، ومن خلالها أخيرا تتجسد، وبها تختلف عن غيرها من الأجناس. وتبعا لهذه التحديدات يغدو السدر العربي هو   الجنس الذي توظف فيه صيغة السرد وتهيمن على باقي الصيغ في الخطاب، ويحتل فيه الراوي موقعا هاما في تقديم المادة الحكائية"(2).
          وما يقع ضمن مسمى "السرد العربي" مادة حكائية واسعة ممتدة زمانا ومكانا، ولم تحظ هذه المادة باهتمام النقد العربي القديم فلم يتناولها ولم يعن بتجنيسها، بل إن الاعتراف بالسرد من ناحية انتمائه للأنواع الأدبية يبدو أمرا متأخرا في النقد العربي الذي عني بنقد الشعر أوضح عناية، وأما الإشارات القليلة إلى بعض الأعمال الحكائية فتفيد بأن الوعي العربي والنقد العربي القديم نظرا بارتياب إلى السرد وأصحابه، ولم يعترف بأدبية السرد إلا في حدود ضيقة وهامشية ونادرة.
          نظر النقد العربي القديم إلى الأجناس ضمن منظور ثنائي: المنظوم والمنثور، أو الشعر والنثر، ولعل السرد عند من اعترف به ينضوي تحت صيغة النثر، ولكن هذه الصيغة عندهم تشير غالبا إلى أنواع نثرية غير قصصية، كالخطب والرسائل والوصايا وأنواع مشابهة نالت شيئا من الرضا، أما الأنواع السردية فكانت غالبا خارج الاعتراف والاهتمام النقدي والسلطوي.
          وفي سياق إعادة الاعتبار للسرد نعيد النظر في المبدأ الثنائي لتقسيم الأجناس عند العرب، ونقترح مبدأ ثلاثيا(3) عوضا عن التقسيم الثنائي الذي يغيّب السرد وينفيه، وفي ضوء هذا الاجتهاد تغدو الصيغ الأجناسية الكبرى عند العرب ثلاث صيغ أساسية هي:
  1. الشعر، وهو جنس شديد الوضوح، مشبع بالتعريف والتمييز، وله أنواع متعددة عند العرب منها: القصيدة، والرجز، والموشح وغيرها. كما جرى تقسيمه إلى أنواع من منظور الأغراض، كأن يقال: المديح والغزل والرثاء...
  2. النثر، ونعني به وفق مبدأ التقسيم الثلاثي للصيغ الجامعة: النثر غير القصصي. ويضم أنواعا من مثل: الخطبة وسجع الكهان والأمثال والأقوال السائرة والحكم والوصية والرسالة والتوقيعات وغيرها.
  3. السرد، وأما السرد فيغدو صيغة أجناسية جامعة للأنواع والأنماط ذات الصفة القصصية والحكائية.
          وإذا كان النقد القديم لا يفيدنا في حصر المادة السردية وتصنيفها، فإن ما وصلنا من المادة الحكائية أو ما وصلنا من ذكر لها أو لبعض أجزائها يمكن أن يكون مدخلا للتصنيف ولو بأثر رجعي، أي الانطلاق من النص إلى الجنس وليس من الجنس إلى النص، أما التسميات فيمكن اختيارها واقتراحها اعتمادا على التراث الحكائي نفسه من بين المصطلحات والتسميات السردية التي لم يقيض لها ما يناسبها من اهتمام نقدي يبلورها ويطورها على مستوى الأنواع السردية الواضحة.
          واعتمادا على جهد عدد من الباحثين في مجال السرديات وعلى جهدنا في هذا المجال يمكن تسمية المصطلحات/الأنواع التالية: القصة/الخبر/الحكاية/السيرة/الأسمار/الخرافة/الأسطورة (أساطير الأولين)/الرواية/النادرة/الطرفة والملحة (الحكاية المرحة)/المثل/الكرامة الصوفية/الرسالة القصصية/الرحلة/المقامة/المنامة/النبأ/تكاذيب الأعراب....
القصة/القصص:
نلاحظ أن المصطلح الشامل عند العرب هو: القَصص، بفتح القاف، وهو كما يبدو اللفظ العربي الذي يقابل مصطلح السرد Narration بالمدلول المعاصر والشائع ﻓﻲ وقتنا الراهن، ووفق ما جاء ﻓﻲ معجم (لسان العرب) لابن منظور فإن لفظة: قَصّ – قَصَص: تحمل مدلولات كثيرة، واعتمادا على ما جاء فيه يمكن أن نتبيّن ما يلي(4):
- اللفظة العربية التي تطلق اسماً على المرويات السردية بأشكالها المختلفة هي: القَصص، وهي ﻓﻲ الأصل مصدر الفعل قَصّ، ثم استخدمت استخدام الاسم لشيوعها وغلبة إطلاقها على ذلك النوع الأدبي.
- استخدم ابن منظور مصطلحات أو ألفاظاً ثلاثة: قِصة – خبر – قَصَص، وعدها كما يبدو مترادفات ولم يحاول التمييز بينها أو بيان علاقة الجزء بالكل، فهي عنده واحدة ﻓﻲ دلالتها أو معناها.
- القَصّ مرتبط بالإخبار، وبالتتبّع، ينطلق من المادي (تتبع الأثر) ويمضي باتجاه المعنوي (تتبع الأحداث أو تفاصيل الكلام والمعاني).
- هناك علاقة ما بين القَص والليل، (قصّ آثارهم: تتبعها بالليل) ويمكن أن نتذكر أن طائفة واسعة من القصة العربية ترتبط بالليل (حديث الليل – قصص السمر).
- القصة يمكن أن تكون مكتوبة (القِصص: جمع القصة التي تكتب) ويمكن أن تروى مشافهة (ربطها بالخطبة الشفوية بطبيعتها).
          ونتفق مع الناقد والباحث التونسي محمد القاضي في مجمل ملاحظاته حول مصطلح "قصة-قصص"، فهو حقا مصطلح شائع، منذ استخدام صيغته القرآنية: قصص (بالفتح)التي حملت اسمها السورة الثامنة والعشرون في القرآن كما "وردت الكلمة خمس مرات في صيغة الاسم (القصص) وهي ذات معنى إيجابي، إذ هي تدل في الغالب على ما تضمنه القرآن من قصص". ويشير محمد القاضي إلى أن الكلمة جرت على ألسنة الأدباء غير مقتصرة على المجال الديني، ويمثل على ذلك باستعمال الجاحظ لها في عناوين كتاب البخلاء وفي متنه أيضا. ولكنها ظلت تحمل مدلولا واسعا بعيدا عن التحديد أو الانضباط في نوع سردي محدد المعالم، "فظلت تدل على السرد عامة دون أن يدقق معناها على غرار ما أصبح لها في القرون اللاحقة"(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1) من كلمة محمد الهادي الطرابلسي في مفتتح ندوة:مشكل الجنس الأدبي في الأدب العربي القديم التي نظمها قسم العربية بآداب منوبة-تونس في نيسان (إفريل) 1993، ونشرت أعمال الندوة ضمن منشورات كلية الآداب-منوبة 1994.
 (2)  سعيد يقطين، السرد العربي مفاهيم وتجليات، دار رؤية، القاهرة، 2006، ص 86-87.
 (3) اقترحنا هذا التقسيم الثلاثي أول مرة في ندوة الأجناس الأدبية التي عقدها قسم اللغة العربية بجامعة فيلادلفيا في كانون الثاني 2005، ثم أشرنا إليه في كتابنا: بنية الرواية القصيرة، دار أزمنة، عمان، 2006. 
 (4) عرضنا لهذا التحليل وما يتصل به تفصيلا في بحثنا: السرد العربي القديم من الهامش إلى المركز، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، ع 98، ربيع 2007.
 (5) محمد القاضي، الخبر في الأدب العربي-دراسة في السردية العربية، منشورات كلية الآداب منوبة، تونس، 1998، ص69-72.