الاثنين، 29 مايو 2017

أبو العلاء المعري

إضاءة حول أبي العلاء المعري
د.محمد عبيد الله
أبو العلاء، أحمدُ بنُ عبد الله بنِ سليمان...المعرّي التّنوخي، "ولد لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وكان أبو العلاء ضريرا عمي في صباه، وعاد من بغداد إلى بلده معرة النعمان فأقام به إلى حين وفاته. وكان يتزهّد ولا يأكل اللحم، ويلبس خشن الثياب...مات في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة"[1].
".. رحل إلى بغداد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ودخلها سنة تسع وتسعين، وأقام بها سنة وتسعة أشهر، ولزم منزله بعد منصرفه من بغداد سنة أربعمائة، وسمى نفسه: رهْنَ المحبَسين. وكان عمره ستا وثمانين سنة، لم يأكل اللحم منها خمساً وأربعين سنة"[2].  أما مصنّفات المعري، فقد أملى معظمها بعد سنة 400هـ، أي في حقبة عزلته التي تفرّغ فيها للعلم والإملاء. ووصلت مؤلفاته إلى سبعة وستين مصنفا.
ولو وقفنا عند صورة المعري شاعرا لالتفتنا إلى ابتعاده في معظم شعره عن الأغراض التقليدية، وأنه ارتفع بالشعر العربي إلى مناخ جديد يلتقي فيه الشعر مع الفكر، فهو بحق كما وصفه المرحوم طه حسين، الشاعر الفيلسوف الوحيد في شعرنا العربي القديم، فقد جمع بين النظرة الفلسفية إلى الحياة والأفكار والواقع، وإلى التعبير عن هذه النظرة ناقدا وناقما ومصححا في كثر من الأحيان.
وقدم لنا المعري لونا جديدا من السخرية المكتومة الجادة، ربما أفاد من الطريقة التي انتهجها المتنبي في بعض شعره ومواقفه، ولكنها بلغت عند المعري مداها البليغ. السخرية التي لا تهدف إلى الإضحاك وإنما تتولد من مفارقات الحياة، وتدفعنا للتأمل قبل كل شيء. ومن ذلك سخريته من كنيته (أبو العلاء) وهو يرى الإنسان يهبط أو ينزل ولا يعلو، يقول[3]:
دعيت أبا العلاء وذاك مينٌ   ولكن الصّحيح: أبو النزول  
ويظهر موقفه الحازم من سياسة عصره في ديوان لزوم ما لا يلزم بوضوح، كما في قوله[4]:
مُلّ المقام فكم أعاشر أمة       أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها    فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وله قول مشهور في التعبير عن سجونه وعزلته هو قوله[5]:
أراني في الثلاثة من سجوني      فلا تسألْ عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي        وكون النفس في الجسم الخبيث
      
        ومن خصائص شعره وضوح ظاهرة التصنيع، ومن صورها توظيف المفاهيم والاصطلاحات اللغوية والعروضية والبلاغية وإدماجها في اللغة الأدبية، وهي ظاهرة متميزة تنم عن جرأة فنية من جهة، وعن محاولة للربط بين طاقات هذه المصطلحات والمحتوى الفكري الجديد الذي يعبر المعري عنه. يقول مثلا مستندا إلى دقة المعرفة بالأصوات العربية وطبائعها الصوتية الخالصة[6]:
اجعل تقاك الهاء تعرف همسها     والراء كررها الزمان مكرّر
فالهاء كما نعرف من الأصوات المهموسة، والراء صوت تكراري، وهو هنا يسترجع هذه الطاقات، ولكنه يريد أن يمتد بها كي تعانق مداها الدلالي، فيغدو تكرار الراء مثلا يعكس تكرار الزمن، وهمس الهاء يقترب من التعبير عن التقوى بما فيها من خفوت وجرس خفيّ.
ويقول أيضا[7]:
وأراعُ من تِرْبي ولا أرتاع من     تُربي، وفي قرب الأنيس خطارُ
وقوله في اللعب على حرفي اللام والباء:
تواصل حبل النسل ما بين آدمٍ     وبيني ولم يوصل بلامي باءُ [8]
يمثل ديوان سقط الزند المرحلة الأولى من شعر المعري، ومعظم ما فيه يمثل إنتاجه حتى سنة 400هـ، وأما سبب التسمية فقد أوضحها المعري نفسهـ وعنه نقلها شارحو السقط الاوائل، وفي مقدمتهم الخطيب التبريزي تلميذ أبي العلاء: "كان قد لقّب هذا الديوان بـ (سَقْط الزند) لأن السقط أول ما يخرج من النار من الزند، وهذا أول شعره وما سمح به خاطره، فشبّهه به. وما أملاه فيه سمّاه: (ضوء السقط) غير أنه وقع فيه تقصير من جهة المستملي، وذلك أنه استملى معنى بعض أبيات منه وأهمل أكثر المشكلات"[9]. والمقصود بـ (ضوء السقط) شرح أبي العلاء نفسه لديوان سقط الزند. فهو عنوان أول شروح الديوان شرحها المعري وفق ما سأله المستملي. ويوضح التسمية أيضا قول الخوارزمي شارح الديوان: "سماه بسقط الزند لأن السقط أول ما يسقط من الزند عند القداح، ولا يكاد يخرج من الزند إلا بتكلّف شديد، والزند ها هنا مجاز عن الطبع، وهذا الديوان أول شعر لفظه طبعه في غرّة عمره، وهو قليل متكلّف بالإضافة إلى بقية شعره"[10].
ويمثل هذا الديوان بدايات وخطوات قويّة للمعري في مضمار الشعر، من ناحية إتقان القول في أغراض متنوعة من الشعر، ومن ناحية ما يكشف عنه من قدرات بيانية ولغوية، وما يعكسه من ثقافة المعري واستيعابه لماضي الشعر العربي، ويبدو من هذا التنوع ومن القول في أغراض معروفة ومجهولة وكأنه يروّض نفسه أو يدرّبها في سبيل الإتقان والإجادة. ولا يخفى أيضا تأثيرات المتنبي عليه في أمور كثيرة، حتى إن شخصيته تكاد تلتبس أو تقترب من طريقة المتنبي في التعبير عن كبريائه وعلو نفسه[11].
ومن هذه المرحلة قصيدة نونية اهتم بها الدارسون لقوة الصورة فيها بما فيها من تصوير الظلمة والنور[12]:
عللاني فإن بيض الأماني     فنيت والزمان ليس بفانِ
ولامية أخرى تذكر بلاميات المتنبي[13]:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل     عفاف وإقدام وحزْم ونائلُ
ومنها أبيات شهيرة:
وإني وإن كنت الأخير زمانُه          لآتٍ بما لم يستطعه الأوائل
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً     تجاهلت حتى ظُنّ أني جاهلُ
فيا موت زرْ إن الحياة ذميمةٌ         ويا نفس جِدّي إن دهرَك هازل
ومن هذه المرحلة داليته التي لا تبعد عن مناخات صاحبه المتنبي[14]:
يكررني ليفهمني رجال       كما كررت معنى مستفادا
ولو أني حبيت الخلد فردا     لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي     سحائب ليس تنتظم البلادا
ولي نفس تحل بي الروابي      وتأبى أن تحل بي الوهادا
ومع مسحة الحكمة والتأملات العارضة التي تظل أقرب لمدرسة المتنبي هناك ظاهرة الميل إلى البداوة رغم أن المعري حضري، وليس بدويا إلا في أصوله البعيدة، وهذا الميل نفسره بميل الثقافة والتشوق إلى اللغة الخشنة، وهو ليس بدعا في هذا، فقد خرج العرب قبل المعري من بداوتهم، ووسعوا القطاع الحضري الذي كان محدودا قبل الإسلام، ولكنهم حافظوا مع ذلك على بداوة اللغة وحصروا وظيفة الأعراب بوصفهم رسلا أو بريدا للغة العالية التي تكاد تطيح بها الحواضر المختلطة.
وفي سقط الزند مجموعة من القصائد تتعلق بوصف الدروع سميت بـ "الدرعيات"، ولسنا نعرف بالضبط مبعث نظمها عند المعري، أهو الرياضة والسوس أي التدرب على إتقان الشعر، كما كان الحال مع أغراض أخرى؟ فالقصائد لا تتكشف عن غاية واضحة، ولا يظهر فيها ارتباط مع فكر المعري، وإنما هي قصائد تعتمد دقة الوصف، والخبرة الدقيقة في سلاح العرب وأسماء أجزائه وتفاصيله وصناعته، مما يدل من جهة على سعة ثقافة المعري ومعرفته اللغوية والموروثة. وهي إجمالا توسّع لموضوع وصفي حاضر في الشعر القديم، وليس الموضوع بحد ذاته جديدا أو لافتا، فقد وصفوا الدرع والقوس والسيف والرمح والبيضة وما إلى ذلك، بل توسع هذا الوصف إلى درجة من الإتقان الرفيع عند الشماخ في وصف القوس منذ أن كان غصنا في شجرة حتى استوت قوساً لا مثيل لها. أما ختام هذه المرحلة فتنتهي إلى قصيدة فذة مميزة ما زالت تتردد كعلامة في حياته كلها. وهي داليته الرثائية[15]:
غير مجد في ملّتي واعتقادي    نوح باك ولا ترنّم شادِ
هذه الدالية بلغت نضجا في التفكير والتعبير، وفي أخبارها أنها قيلت في رثاء فقيه حنفي، اسمه أبو حمزة، توفي قبيل الأربعمائة أي قريبا منها في نهايات القرن الرابع الهجري. ووفق بحثي فقد وجدت أن المرثيّ في هذه القصيدة اسمه أبو حمزة الحسن بن عبد الله بن محمد بن عمرو التنوخي المعري مات قبل الأربعمائة. وهو فقيه حنفي من أقاربه، ولكن أهمية القصيدة ليست في المبعث الحقيقي لقولها أو نظمها، بل فيما تضمره من بذور عزلة المعري بعيد ذلك بزمن قصير.
لقد خرج من رثاء الفقيه الحنفي إلى رثاء الإنسان من حيث هو كائن، فخرج من الفردي إلى الوجودي، وحشد في هذا التحول حزما من الصور والمتضادات التي جانس بينها أو تمكن من نسجها ليكون وحدة جديدة على مبدأ الصراع والتضاد بين قطبي الحياة والموت، وليعصف سؤال المصير بكل شيء. وسؤال المصير بما فيه من تجاذبات الوجود بين الحياة والموت هو السؤال الذي سيظل حاضرا في مساءلات أبي العلاء في المراحل التالية من حياته.
أما لزوم ما لا يلزم وهو ديوانه الفلسفي، فقد وضع له المعري مقدمة تشكّل أساساً لتلقّيه على مستوى الشكل والمضمون، أولها تفسير التسمية التي شاعت مع استعمال المعري لها، وغدت نوعا بلاغيا بديعيا يكرر البلاغيون والنقاد الاهتمام به. وفي المقدمة كشف عن مضامين التفكير ومنازل الرؤية بأسلوب أبي العلاء ولغته المواربة: "كان من سوالف الأقضية (ج.قضاء) أني أنشأت أبنية أوراق، توخّيت فيها صدق الكلمة، ونزّهتها عن الكذب والميط (الغلو، المبالغة)...فمنها ما هو تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد، ووضع المنَن في كل جيد. وبعضها تذكير للناسين، وتنبيه للغافلين، وتحذير من الدنيا الكبرى التي عبثت بالأول، واستجيبت فيها دعوة جرول (الحطيئة):
        جزاك الله شرا من عجوز    ولقاك العقوق من البنينا
فهي لا تسمح لهم بالحقوق، وهم يباكرونها بالعقوق. وإنما وصفت أشياء من العظة، وأفانين (ج.فن، نوع) على حسب ما تسمح به الغريزة. فإن جاوزت المشترط إلى سواه فإن الذي جاوزت إليه قول عرّي من المين (الكذب). وجمعت ذلك كله في كتاب لقّبته: لزوم ما لا يلزم"[16].
ويستوقفنا في هذه الرؤية جملة أمور هامة في تلقّي أبي العلاء وقراءته، منها:
-تحيّز أبي العلاء للصدق، ونأيه عن "الكذب"، بكل مستوياته، ومن ضمنها غلو التخييل، الذي يدخل في هذا الكذب الفني. ويتراءى في هذا الاختيار مناهضة القول النقدي المشهور: أحسن الشعر أكذبه. في هذه المرحلة من التفكير ينتقل المعري إلى قاعدة: أحسن الشعر أصدقه، تفكيرا وتعبيرا.
-الموقف من الدنيا: يطوّر المعري هجاء الحطيئة لأمه، لينتقل به إلى هجاء الدنيا بوصفها الأم الكبرى التي اختلت علاقتها بأبنائها من الطرفين: "فهي لا تسمح لهم بالحقوق، وهم يباكرونها بالعقوق". وهذا الاختلال أساسي في نظرة المعري، وسينعكس ذلك على هجاء مرير بصور مختلفة للدنيا وإلصاق صفات قبيحة بها، كمخاطبتها بكنية "أم دفر" التي تعني الرائحة المنتنة، أي: أيتها المنتنة! أيتها الجيفة! وهو خطاب أقرب للشتيمة وإعلان العقوق الذي أشار إليه. والأبناء ومنهم المعري لا ينالون منها ما يحسبون أنه حقوق لهم، ولعل منها حقوقا معنوية ومادية، لم ينلها، فقرر أن يكون موقفه الانصراف عن كل شيء!
ويقول متأففاً من الدنيا/الأم "الخسيسة" على غير طبيعة الأمهات[17]:
خسستِ يا أمّنا الدنيا فأفّ لنا     بنو الخسيسة أوباشٌ أخسّاءُ
ويرى الدنيا بمنظار متشائم عندما يراها أشبه بالميتة أو الجيفة التي تحيط بها الكلاب[18]:
أصاحِ هي الدنيا تشابه ميتةً     ونحن حواليها الكلاب النوابحُ
-وغرض آخر أعلن اختياره هو "تمجيد الله"، وما يتخلله من "عظة". وهو أيضاً ظاهر في اللزوميات، وإن يكن تمجيدا مغايرا للتمجيد التقليدي، ومختلطا بطريقة أبي العلاء. فالعظة التي تعني الإفادة من درس الدنيا، واتخاذ موقف منها، والاتجاه إلى "الله" هي المسافة التي يحاول المعري ملأها. المسافة من الدنيوي إلى الإلهي، وهي بلا شك مسافة وجودية مستحيلة الملء، وفي هذه المحاولة كانت اللزوميات.
أما الشكل الإيقاعي الذي اختاره فيتضمن تفسير التسمية: " لزوم ما لا يلزم، ومعنى هذا اللقب أن القافية تلزم لها لوازم لا يفتقر إليها حشو البيت ولها أسماء تعرف". ثم لخص قواعد القافية واستخلص تسمياتها ومصطلحاتها العروضية، فوجد أنها تتمحور في مصطلحات تتصل بالحروف، وهي ستة: الروي، والردف، والتأسيس، والوصل، والخروج، ولهذه الخمسة اثنتا عشرة منزلة أو صورة بحسب صور استعمالاتها في الشعر العربي. أما الحركات فمصطلحاتها ستة: الرس، والإشباع والحذو، والتوجيه، والمجرى، والنفاذ. ومنازل الحركات أيضا اثنتا عشرة منزلة أو صورة. وقد شرح هذه المصطلحات وناقشها مناقشة دقيقة وضرب أمثلة عليها من الشعر القديم.
ثم جاء لالتزاماته الإضافية التي "لا تلزم" بمعنى أنها لم تكن تشترط، فهي إذن قيود إضافية إلى القيود اللازمة، قال: "وقد بنيتُ هذا الكتاب على بنية حروف المعجم المعروفة ما بين العامة، لا التي رتبها العلماء بمجاري الحروف، (أي ترتيب: ألف باء، الهجائي، وليس الترتيب الصوتي)..وقد تكلّفت في هذا التأليف ثلاث كلف:
الأولى: أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها.
والثانية: أنه أن يجيء رويّه بالحركات الثلاث وبالسّكون بعد ذلك.
الثالثة: أنه لزم مع كل رويّ فيه شيء لا يلزم من ياء أو تاء أو غير ذلك من الحروف"[19].  
وأخيرا فإن أبا العلاء شيخ المعرة رحمه الله شيخ عقلاني مؤمن من نوع فريد، صدّق بالنتيجة الكلية، ولكنه لم يطمئن إلى الطرق الموصوفة إليها، ومن هنا نسوي بعض ما قد يظنّه القارئ تناقضا أو مفارقة بين إقراره الإيماني في مواضع كثيرة من شعره ونثره، ونقده أو تجديفه في مواضع أخرى. إنه لا يجدف إلا ضد ما يعدّه طرقا مستهلكة في معرفة الله، وهي طرق لم تقنعه ولم تدل عقله المضيء، فالخلق ليس عبثا وفق منظوره، ولكن ما لم تتوصل الأذهان والعقول إليه هو فهم التفاصيل إلى تلك الكليات فهما سليما. ولقد رفض كل مذاهب عصره، ونقدها نقدا صريحا، وكأنه يمهد السبيل لفلسفة "جديدة" وفهم "جديد" للعقل. نقد المرجئة والمعتزلة بل والمذاهب كلها. نقد فهم الناس لها. وحاول أن يرى جوهرها.
أما مراده الأخير أو العالم المثالي الذي يطلبه فيبدو وسط ضباب الصورة السوداء، إنه ليس مطلبا عسيرا ولكن اقتتال البشر وفسادهم جعل عالمه المأمول مستحيلا. ومن الصور الواضحة القليلة التي عبر فيها عن مراده المأمول قوله[20]:
ما أحسن الأرض لو كانت بغير أذى     ونحن فيها لذكر الله سكّان 



الهوامش والإحالات:




[1] . الخطيب البغدادي، الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، (ت463هــ)، تاريخ مدينة السلام، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط1، بيروت، 2001م، 5/398.
[2] . أبو البركات ابن الأنباري، (ت577هــ)، نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء، تحقيق إبراهيم السامرائي، دار المنار، الزرقاء-الأردن، ط3، 1985م، ص258-259.
[3] . المصدر نفسه، 3/31.
[4] . المصدر نفسه، 1/66.
[5] . شرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، 1/297.
[6] . شرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، 2/91.
[7] . المصدر نفسه، 2/97.
[8] . المصدر نفسه، 1/3.
[9] . من مقدمة التبريزي، ضمن: شروح سقط الزند، تحقيق مصطفى السقا ورفاقه، بإشراف طه حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط3، 1986م،1/3.
[10] . من مقدمة الخوارزمي، ضمن: شروح سقط الزند، 1/18.
[11] . ديوان سقط الزند، طبعة أمين هندية، القاهرة، 1901م، ص33.
[12] . المصدر نفسه، ص35.
[13] . المصدر نفسه، ص44.
[14] . المصدر نفسه، ص46.
[15] . المصدر نفسه، ص82.
[16] . اللزوميات، تحقيق أمين الخانجي، 1/ص1. وشرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، 1/19.
[17] . المصدر نفسه، 1/58.
[18] . المصدر نفسه، 1/344.
[19] . اللزوميات، طبعة الخانجي، 1/22-23. وشرح اللزوميات، بإشراف حسين نصار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1/40-41.
[20] . المصدر نفسه، 3/212.





































السبت، 11 مارس 2017

رؤية في قراءة النص

رؤية في قراءة النص

النص بنية مستقلة تمتلك توازناً ذاتياً

محمد عبيد الله
        كيف نقرأ النص الأدبي؟ وما هي المداخل الممكنة التي تساعد على تفكيك شبكة العلامات وفهم شفرتها؟ بل أين يكمن النص: في الكلمات_ اللغة أم في الكاتب ، أم في مسافة وسطى بين المنتج والمتلقي؟ هذه الأسئلة القليلة بعض ما يرد في سياق تداول عملية القراءة، والكيفيات التي ينبغي أن تتجه إليها، أو مجموعة الإجراءات التي يمكن أن تساهم في الاقتراب من النص، ومقاربته على نحو أفضل، وهي لا شك أسئلة مستعصية على الإجابات النهائية،، لكن تأمّلها يعمّق معنى القراءة ومدلولها، بل وظيفتها التي لا تقل أهمية عن تجربة الكتابة نفسها.
        وقد مرّت تجربة قراءة النصوص باختلاف مستواها من البسيط إلى المعقّد، من القراءة المستمتعة إلى المتبصرة، بمراحل مختلفة وباتجاهات شتى برزت في حركة النقد العربي، هذا إذا عددنا النقد تجربة عليا في القراءة. ويمكن أن نعيد أسباب الاختلاف إلى تباين المنابع في النظر إلى ملكية النص، وتباين تلك المنابع أدى إلى اختلاف القراءات وتعدد مداخلها ونتائجها وإجراءاتها وهي تعود إلى ثالوث أساسي يتمثل في الوجوه الثلاثة لعملية الإبداع: الكاتب، النص، القارئ. وهذا الثالوث هو الذي يقوم عليه نجاح عملية الاتصال الإبداعي واكتمال دائرة الرسالة الأدبية.
        الكاتب:
أمّا الكاتب وهو منتج النص، فقد قامت حوله، وانطلقت منه المدارس أو التيارات الخارجية في قراءة النص، وفي هذا السياق برزت القراءات الاجتماعية (السوسيولوجية) والنفسية (السيكولوجية) وما يشبهها، وتلك القراءات عنيت بسيرة الكاتب وتفاصيل حياته، وبيئته ونشأته، وغير ذلك من عوامل خارجية، تعتقد تلك المدارس أنها هامة في فهم الإنتاج الإبداعي، وهي تقوم على مبدأ كبير أننا لن نفهم العمل ما لم نفهم العامل، ولن نتفاعل مع الإنتاج ما دام المُنتِج غائباً، وهنا لا بد من وضع النص في سياق كاتبه، والبحث عن العوامل التي أنتجت النص أو أثّرت فيه مما له صلة بالكاتب وظروفه وعصره وبيئته.
        النص:
وقد قامت ثورة نقدية على التيار الخارجي السابق حتى كادت تقضي عليه، وكان شعارها الحياة للنص، والموت للمؤلف. ولعل المقالة الشهيرة لرولان بارت عن "موت المؤلف" هي أكبر تجلٍ لهذا التيار الذي ينطلق من النص، اعتماداً على اللغة وعلى إغلاق النص واعتباره بُنية مكتملة، مستغنية عن كل ما عداها، فالنص بنية مستقلة تمتلك توازناً ذاتياً، منفصلاً عن التاريخ، فهو مستقر، والقراءة هدفها الكشف عن السر البنيوي فيه اعتماداً على علاقاته وأنساقه الداخلية، ومن هذا الحماس للنص نشأت القراءات البنيوية والشكلية إجمالاً، وقد وظَّفت هذه التيارات كل مكتسبات اللسانيات وعلوم اللغة، وخسر النص معناه مثلما استقل عن كاتبه، فصار بلا مؤلف، نص يتيم مغلق على محتواه اللغوي. ولعل سر هذا التيار مرتبط بالثقافة الغربية التي يُعدّ ابناً شرعياً لها، إذ يبدو قتل المؤلف والاستغناء عنه امتداداً لقتل المنتِج بعامة في إطار تقدير الحضارة الغربية للإنتاج بغض النظر عن صاحبه، فما الناس إلا أدوات للإنتاج، والمهم هو الإنتاج لا المنتج.. ويمكن أن نلمّح هنا بعنوان كتاب الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في وصف البنيوية أنها "فلسفة موت الإنسان". كما يمكن أن نذكّر بتشجيع هذه التيارات في إطار الحرب الثقافية الباردة، نظرا لأنها تعزل الكاتب والمثقف في الإطار الجمالي وتبعده عن التدخل في شؤون العصر، كردّ على إقحام الكتاب والشعراء في المعركة السياسية والاجتماعية بدعوى "الالتزام".
        القارئ:
وقد استمرت هيمنة التيارات النصّيّة، لدرجة أنها لم تؤد إلى عزل النصوص عن كتابها فقط، وإنما عن الجمهور وعن القرّاء، فلم يعد القارئ قادراً على التفاهم مع تلك القراءات المسنودة بجداول تعدّ الحروف والأفعال، وترسم أشكالاً تؤدي إلى موت النص بدلاً من إحيائه، وتؤدي إلى عُزلته عن قارئه المفترض. وهكذا نشأت نزعة جديدة تنادي بإنصاف القارئ الذي أهملته النظرية النقدية في ظل إعلائها من المؤلف والنص. وهكذا ظهر التيار الذي يتحدث عن القارئ النموذجي، الذي يشبه ما أسماه أسلافنا بالقارئ العمدة في النقد العربي القديم، وصار المبدأ كما يلي: القارئ هو المرسل إليه، وهو صاحب الكلمة الأخيرة في النص ولا معنى للنص من غير قارئ، إذن فهو الذي يحدد المعنى، ولا معنى خارج عملية التلقّي، واعتماداً على ذلك قامت مدارس الاستقبال ونظريات التلقّي وجرى تطوير نظريات التأويل. والنقد العالمي الراهن تتنازعه التيارات الثلاثة، فهي تتجاور على نحو عجيب.
        يمكن قراءة النص الواحد من هذه المراحل وما يتفرع عنها، والسر في ذلك أنّ النص المبدع قابل لقراءات شتى، فهو بما يستقر فيه من عوامل التجدد والإبداع والرؤية الممتدة يمكن أن يستوعب ما لا حدّ له من القراءة بكل مستوياتها وأبعادها.




أنواع القراءات:
        وإذا تجاوزنا الخطاطة السابقة التي تكشف عن أسباب اختلاف القراءات وتنوع مداخلها في نظرية النقد، فإننا يمكن أن نطل على مستوى آخر من القراءة وأنماطها. وهذه الأنماط أو الأنواع تعود إلى القارئ الناقد ويمكن تلخيصها فيما يأتي:
1 -    قراءة متعالية: تجد في النص ما ليس فيه أي أنها تعلو على النص، وتتعالى عليه وأهم أنماطها القراءة التأويلية والسيميائية عموماً، فهي قراءة تعتمد على إبداع الناقد القارئ العمدة. ويمكن أن تكون القراءة النصيّة من هذا النمط، لأنها تختلق بُنىً وانساقاً وعلامات لم يقصدها المبدع ولم ينشغل بها، وقد تتحول إلى نمط من تأويل النص وخنقه في قوالب لا تناسبه، وذلك عندما يبالغ فيها، فتتجاوز إمكانيات النص ومسارات الدلالة فيه، كذلك يمكن أن تعد الدراسة الأسلوبية نوعاً من القراءة المتعالية عندما تكشف ما ليس في النص وتبالغ في ربط الأنماط الأسلوبية الطبيعية في اللغة بدلالات كبرى قد لا يتيحها النص نفسه.
2 -    قراءة متعالقة: وهي القراءة المرتبطة بالتناص الذي توسع الاهتمام به مع جوليا كريستيفا وجيرار جينت صاحب نظرية جامع النص، وهنا يعدّ النص ملتقى للنصوص الأخرى، فهو نص مستقل لكنه تكوّن من نصوص أخرى حتى دون نيّة مؤلفه، وعملية القراءة تستلزم رؤيته لا مستقلاً مغلقاً، وإنما من خلال الكشف عن الروابط التعالقية في النص، وتفكيك التعالق النصي أي قراءة العمل الأدبي في ضوء مجموعة كبيرة من النصوص الأخرى التي لا تسمح للنص أن يستقل عن غيره من النصوص، لأن التناص نظرية مرتبطة باللغة وتاريخ استعمال الكلمات، فإذا استخدم المبدع لغة معينة وكتب في جنس معين فهو بالضرورة سيتعالق مع سلسلة من النصوص التي أُنتجت قبله، ولا يمكنه أن ينتج نصاً جديداً خالصا، فالتناص حتمي سواء أكان صريحاً أم ضمنياً.
3 -    قراءة متجاهلة: وهي أسوأ القراءات إذ أنها تتجاهل النص لصالح الحكم عليه بالاستحسان أو الاستهجان، وتظل تدور حول النص من دون أن تتداخل معه، فيقول صاحبها: هذا النص أعجبني، هذا جيد، وذاك رديء... من غير أن تقدم الأسباب التي أوصلت إلى هذا المستوى النهائي من التقييم الفاصل. وغالباً لا تفيد هذه القراءة في شيء لأنها قراءة معيارية تُصدر أحكاماً من دون مقدمات، إنّ المهم في القراءة فضاء التحليل لا الحكم، وعادةً ما يُترك التقييم لمراحل نهائية،أو يُسكت عنه لأنه يصبح نتيجة ضمنية يمكن استنتاجها من التحليل نفسه.

قراءة النص علم أم فن؟

تميز القرن العشرون بمكتسبات العلم الحديث والنزعة التجريبية، وبالوصول بالتقنية إلى أبعد حدودها، ولعل من أوهام الحداثة التي قامت اعتماداً على العلم وفلسفته في القرن السابق اعتقادها بأن كل شيء يمكن أن يخضع لسيطرة العلم، فيتم تعريضه لتجارب منضبطة تكشف عن محتواه ومكوّناته، وقد تأثر النقد بذلك فنشأ تيار رغب في تحويل القراءة إلى ما يشبه المختبر العلمي، بل صرنا نقرأ مصطلحات وتسميات من مثل: المختبر السردي، مختبر الشعر. وحاول بعض النقّاد اختبار إمكانية تحويل القراءة النقدية إلى دراسة علمية وموضوعية بحتة لا تختلف عن أطر العلم الحديث في شيء، لكن الطبيعة الزئبقية والتعبيرية للنص الأدبي وقفت حائلاً دون الوصول إلى هذا الهدف، لكن هذا المسعى أسهم في وصول قراءة النصوص إلى مرحلة: بين بين، فصار في النقد شيء من العلم وكثير من الفن المتصل بالذوق الجمالي.
وكل هذا المناخ القرائي مردّه إلى الفضاء الممتد في النص الأدبي.. وتعدد القراءات بمختلف مستوياتها ليس أمراً مفرغاً ولا سلبياً، وإنما هو أمر طبيعي وإيجابي في ظل تعدد الرؤى، وتطور الوعي الإنساني، وما النص إلا أفق ممتد لذلك الوعي.





















الخميس، 8 ديسمبر 2016

عالمية اللغة العربية

عالمية اللغة العربية

د.محمد عبيد الله

اللغة ليست كيانا مستقلا عن أبنائها والناطقين بها، بل إنها مرتبطة بهم أوثق رباط، فهي عنصر رئيسي من مكونات الهوية والثقافة، ولذلك  تتقدم بتقدمهم وتتراجع بتراجعهم. ولا تتفاضل اللغات كثيرا من ناحية خصائصها اللسانية، بل إن علماء اللغة يساوون من هذه الناحية بين سائر اللغات، ولكنها بلا شك تتفاضل من ناحية مضامينها ومحتوياتها الفكرية والأدبية والعلمية، وتعلو قيمة اللغة كلما زادت محتوياتها كما ونوعا، فهذه الزيادة المطردة تحوج الناس من أهلها وغير أهلها إلى تلك اللغة، فضلا عن أنها تشكل تحديات وتجارب تطور اللغة نفسها وتعلمها دروسا جديدة في التقدم والتطور.
وحال العربية اليوم لا يكاد يخفى على أحد، ويبدو أنها ما زالت تندب حظها كما صورها حافظ إبراهيم في بداية القرن العشرين وحتى اليوم. ولكنها غير ملومة على حالها الذي آلت إليه، بل لقد قاومت وما تزال تقاوم مستندة إلى عناصر القوة فيها، تلك العناصر التاريخية التي هيأتها لأن تتجاوز تحديات ومحنا لا تكاد تتوقف. ووسط عتمة الصورة هناك إضاءات وكوى نجحت اللغة في النفاذ منها، وكشفت عن بعض إمكاناتها حينما أتيح لها ذلك في فرص قليلة مقابل الإهمال من أهلها، والعداء من غيرهم ومن بعضهم. ومع إدراك مسوغات الحال فإن ترداد الشكوى وحده لا يكفي، والكلام على التحديات التي صار أكثرها معروفا معلوما لا ينفع، فنحن محتاجون إلى أن نشعل بعض الشموع أو ننتبه إلى وجودها أكثر من حاجتنا لمواصلة شتيمة الظلام.
لقد حظيت اللغة العربية بما لم تحظ به لغة أخرى من عوامل القوة والبقاء، فهي اللغة التي ولدت في مهد الأبجدية القديمة، وورثت بعض عناصر أمهاتها وأخواتها من لغات الشرق القديم، وهي لغة العرب قبل الإسلام، تظهر مكتملة ناضجة في الشعر الجاهلي لا يكاد ينقصها شيء. وهي بمجيء الإسلام  لغة القرآن ولغة الإسلام الدين الكوني الذي نزل للناس كافة، ولكن لغته الدينية والرسمية هي العربية التي تعلمتها الشعوب الأعجمية عندما دخل الناس في دين الله أفواجا. ثم غدت اللغةَ العالمية الأولى في عصر ازدهار الحضارة العربية وسيطرتها على العلم العالمي، ولا يضيرنا أن نذكر بالمراكز التي انتشرت لتعلم العربية ولنقل محتواها العلمي إلى اللغات الأوروبية، وإلى أثر ذلك المحتوى في وجوه شتى من عوامل النهضة الأوروبية وخروج أوروبا من عصر الظلمات وعصور الانحطاط. 
ولقد اصطبغت بها لغات الشعوب الإسلامية فتحولت إلى الكتابة بالحرف العربي كالفارسية والعثمانية (التركية القديمة) والأوردية. ولم تتقهقر هذه اللغة رغم مرور قرون طويلة من الحكم العثماني التركي وظلت قوتها نافذة رغم التحديات والمحن الكثيرة. وتعرضت في القرن العشرين لتجارب صعبة ومحاولات مريرة كي تنحني أمام العاميات مرة وأمام اللغات الأجنبية مرات، وأمام دعاوى لتغيير كتابتها والانقطاع عن ذاكرتها، ولكنها صمدت وبقيت حية، وماتت أكثر تلك الدعوات أو تحولت إلى تجارب جانبية لا تغير من جريان النهر المقدس شيئا.
إنها لغة عالمية ما في ذلك شك، بالنظر إلى عمرها المديد وشبابها المتجدد، وإلى محتواها الحضاري المتنوع على مر العصور، فأية لغة استمرت حية مثلها؟ وأية لغة تمكنت من تثبيت بعض قوانينها وطبائعها ولم تتسامح حيال التغير مثلها؟ إننا نقرأ بهذه اللغة من امرئ القيس حتى محمود درويش مثلا، ونقرأ بها الجاحظ كما نقرأ بها نجيب محفوظ..ولا نجد صعوبة في ذلك، بينما يشق مثلا على أبناء الإنجليزية اليوم أن يقرأوا تشوسر أو شكسبير بلغتهم قبل ثلاثة أو أربعة قرون.
 وإذا كان عدد الناطقين باللغة من أبنائها وغير أبنائها من المؤشرات المعتمدة في تصنيف اللغات، فإن اللغة العربية لغة ما يزيد على 300 مليون شخص ممن تعد العربية لغتهم الأم، وهي في المرتبة الرابعة عالميا من ناحية عدد الناطقين بها، وربما لو توفرت إحصاءات دقيقة مبرأة من الأغراض السياسية لتجاوزت الإسبانية والإنجليزية اللتين لا يبتعدان عنها من ناحية عدد الناطقين بهما من موقع "اللغة الأم"، ولنالت المرتبة الثانية بعد الصينية بيسر ودون صعوبات.  
وزيادة على ذلك فإنها اللغة الثانية للمسلمين الذين لا يمكنهم أداء عباداتهم وشعائرهم بغير العربية، بصرف النظر عن مستوى إتقانهم لها، بمجموع يصل إلى 1,6 مليار مسلم (2011) وبتوقعات لارتفاع هذا العدد إلى 2,2 مليار عام 2030 أي قرابة ربع سكان الكرة الأرضية. ومن الطبيعي والمفروض أن يكون هذا العامل سببا رئيسيا في عالمية اللغة العربية من ناحية ضرورة تعلمها واستخدامها إذا ما تذكرنا أنها اللغة الوحيدة المرتبطة ارتباطا مقدسا بواحد من الأديان الكبرى في العالم. وليس من لغة تدانيها من هذه الناحية، ولكن من جانب آخر فإن الحرب التي تشن على الإسلام وأهله تستهدف اللغة فيما تستهدفه لأنها إحدى جبهات الإسلام وحضارته.
إنها لغة عالمية، بعدد الناطقين بها، والمحتاجين إليها من غير أبنائها، هذا إذا تجاوزنا أعدادا كبيرة تعلموها ويتعلمونها لأسباب ثقافية وأمنية وسياسية، ولقد زاد هذا العدد في السنوات الأخيرة، وهو مرشح للزيادة في الأفق القريب. ولقد كانت هذه الخلفية سببا في اختيارها منذ عام 1973 ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها والتابعة لها.
 ومما يمكن الإشارة إليه أن منظمة التجارة العالمية "الجات" تعتمد ثلاث لغات رسمية هي: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وهناك ضغوطات ومطالبات من الأطراف العربية منذ عدة سنوات بأن تعتمد العربية ضمن اللغات الرسمية لهذه المنظمة الدولية. وآخر هذه المحاولات ما انتهى إليه وزراء التجارة العرب من الاتفاق على هذا المطلب وتقديمه في اجتماع جنيف الذي انعقد منتصف هذا الشهر، ووردت المطالبة بصراحة على لسان وزيرة التجارة الكويتية، ولكن انتهت الاجتماعات دون الموافقة على هذا المطلب فضلا عن عرقلة حصول الجامعة العربية على مقعد بصفة مراقب دائم. وهو ما يشير إلى بعض جوانب الصراع ضد العرب والعربية في المحافل الدولية. ومن المعروف أن إدخال اللغة العربية يعني ترجمة وثائق هذه المنظمة واتفاقاتها وأدبياتها كافة إلى العربية بشكل دائم، وهو أمر حيوي سواء من ناحية تواصل الناطقين بالعربية مع أدبيات المنظمة وقراراتها أو الأثر الإيجابي الذي يزيد من فرص العربية في تفاعلها مع لغة التجارة والاقتصاد، وما يتضمنه ذلك من الاعتراف بمكانتها وعالميتها، وهو أمر نأمل أن تواصل الدول العربية المؤثرة اقتصاديا وتجاريا المطالبة به وعدم التنازل عنه.
ومن ناحية بروزها على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) فرغم أن الأرقام والنسب لا تعكس قوة اللغة العربية ولا مكانتها ورغم الإهمال الذي يحيط بها ورغم أن القواعد والاسس التقنية التي بنيت عليها الشبكة ليست أسسا عادلة من الناحية التقنية واللغوية، فقد ظلت اللغة العربية تظهر ضمن لغات الإنترنت العالمية، وموقعها يتقدم باطراد مع كل إحصاء، ولقد ظهرت في الترتيب السابع من ناحية عدد المستخدمين لها على الشبكة العالمية متقدمة على لغات كثيرة منها الفرنسية والروسية والكورية. كما سجلت المرتبة الثامنة عشرة من حيث اللغات الخمسون الأكثر بروزا في الترجمة.
وفي إحدى النظرات الاستشرافية توقع الكاتب الإسباني (كاميلو جوزي سيلا) الحائز على نوبل عام 1989 أن اللغات القادرة على الصمود في وجه تغيرات العصر أربع لغات: الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية. وهي نظرة تستند إلى عوامل الانتشار والقوة الذاتية في هذه اللغات.
لقد تعددت دعاوى الموت، موت اللغة العربية وانحسارها في مراحل مختلفة، ثم عاودت الظهور مع مرحلة ثورة الاتصالات والعولمة، ومعظم هذه الدعوات مصدرها الخوف الشديد المبالغ فيه من اللغة العربية من فئة معادية للغة وللثقافة العربية، ومن فئة ثانية تخاف على اللغة فتجعل هذه الدعوى سبيلا للصدمة لعل النائمون يستيقظون ويهبون لنجدة لغتهم. ولكنها دعاوى لا نحسب أن شيئا منها سيتحقق، لأسباب كثيرة دينية وثقافية ولغوية متعاضدة متشابكة.
ولقد بدت عالمية العربية في محتواها الأدبي والفكري والإعلامي الذي أسهم في تطويرها في العصر الحديث فقطعت شوطا طويلا في التطور من هذا الجانب، ومن يراجع تطور الأدب الحديث وتطور الصحافة العربية وتطور الفكر العربي الحديث سيعرف مقدار طواعية هذه اللغة ومرونتها وإمكاناتها وكذلك سيطل على الجهد الكبير الذي بذله الأدباء والمفكرون والإعلاميون العرب مما مكنهم من تطويع العربية للعصر الجديد كلغة فكر وأدب وإعلام حديث متجدد. ولقد تمكن نجيب محفوظ رائد لارواية العربية من الحصول على جائزة نوبل العالمية ولقد لفت هذا الفوز الانتباه للعربية الحديثة المتطورة، وعزز شيئا من مكانتها بين اللغات العالمية.
أما الجانب الذي لم يتح للعربية ان تحقق إنجازات ملائمة فيه فهو الجانب العلمي والتقني، فلقد شهد العصر الحديث ثورة علمية وتقنية متسارعة، حاولت العربية اللحاق به ومواكبته ولكن تعرضت التجربة لكثير من الانتكاس ولبست لبوسا سياسيا وتعليما ظل يشدها إلى الوراء ويمنعها من تجريب حظها ومن التطور العلمي ومن التفاعل مع العلم الحديث. ولعل قضية تعريب العلوم وتعليمها بالعربية من أبرز قضايا هذا المحور. فلقد استسلمت الجامعات العربية للتعليم باللغات الاجنبية وظلت تجارب التعريب محدودة مرتبكة.
ونحن حين نعرض للعربية لا نريدها أن تغدو لغة أدب وفكر فحسب، ولكننا نريدها لغة متكاملة حية قادرة على استيعاب المحتويات العلمية والتقنية، ولكن هذا الجانب لا يمكن النهوض به من دون أن يتجه أبناء العربية من العلماء والمتخصصين في العلوم المختلفة إلى تعميق البعد العلمي في العربية تعريبا وتأليفا وتطويرا. فنحن نحتاج إلى نهوض حركة بحث علمي بالعربية، في مجالات تكنولوجيا المعلومات وغيرها، ومحتاجون إلى استكمال الجهود في تعريب المصطلحات، وإلى عدم الاستسلام إلى السهولة باستخدام الإنجليزية وحدها. فذلك لا يسمح بتوطين العلم ولا يمنح فرصة للإسهام العربي الحقيقي للغة العربية.
لقد نجحت اللغة العربية في العصور العباسية لان تكون اللغة العالمية الاولى كلغة علمية تطلع الأوروبيون إلى تعلمها لكنهم لم ينتموا إليها إنتماؤنا إلى لغاتهم اليوم، ولم يستسلموا إليها كما نستسلم اليوم وما أسرع أن تشرّبوا علمها وتفاعلوا معه ليكون أحد مكونات نهضتهم اللاحقة وخروجهم من عصر الظلمات الذي كانوا يعيشون فيه. نحن اليوم في مرحلة جديدة من الظلمة الحضارية وليست مكانة اللغة إلا أحد مؤشرات هذا العصر. وما ندعو إليه من العودة إلى أوليات الأمور من ناحية استخدام اللغة العربية كلغة علم ومعرفة علمية أحد مؤشرات الخروج.